تقدير المصير أمراً يشبه «البداء» فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا اللّفظ مجازاً ، أو كأنّ الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوّز.
وبهذا ردّ بعض أئمّتنا قول اليهود : إنّ الله قدّر في الأزل مقتضيات الأشياء ، وفرغ الله من كلّ عمل إذا جرت الأشياء على مقتضياته ، قال ـ عليهالسلام ـ : بأنّ لله عزّ وجلّ في كلّ يوم قضاءً مجدّداً بحسب مصالح العباد لم يكن ظاهراً لهم ، وما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه الأزلي ، فالنزاع في هذه بيننا وبين أهل السنّة لفظيّ لأنّ ما ينكرونه من البداء الذي لا يجوز على الله عزّ وجلّ تبرّأ الشيعة منه ، وممّن يقول به ، براءتها من الشرك بالله ومن المشركين.
وما يقوله الشيعة من البداء بالمعنى الذي ذكرناه يقول به عامّة المسلمين ، وهو مذهب عمر بن الخطّاب وغيره كما سمعت ، وبه جاء التنزيل (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (١) ، و (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، أي كلّ وقت وحين يُحدث أُموراً ويجدّد أحوالاً من إهلاك وإنجاء وحرمان وإعطاء ، وغير ذلك كما روي عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ، وقد قيل له : ما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه سبحانه وتعالى أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ، ويضع آخرين.
هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسمّيه بداءً ، وغير الشيعة يقولون به ، لكنّهم لا يسمّونه بداءً ، فالنزاع في الحقيقة إنّما هو في تسميته بهذا الاسم وعدم تسميته به ، ولو عرف غير الشيعة أنّ الشيعة إنّما تُطلِق عليه هذا الاسم مجازاً لا حقيقة ، لتبيّن ـ حينئذ ـ لهم أنّه لا نزاع بيننا وبينهم حتّى في اللفظ ، لأنّ باب المجاز واسع عند العرب إلى الغاية ، ومع هذا كلّه فان أصرّ غيرنا على هذا النزاع اللفظي وأبى
__________________
(١) الرعد : ٣٩.
(٢) الرحمن : ٢٩.