يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاقّ وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية ، وما رواه بعد ذلك ، فإنّه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية ، تربو على ستمائة ألف حديث ، لم يصحّ لديه منها أكثر من أربعة آلاف ، وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الأحاديث وكثير من هذه الأحاديث التي صحّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم. (١)
فهذه المجعولات على لسان الوحي ، تقلع الشريعة من رأس ، وتقلب الأُصول ، وتتلاعب بالأحكام ، وتشوّش التاريخ ، أو ليس هذا دليلاً على عدم وفاء الأُمّة بصيانة دينها عن الانحراف والتشويش؟!
هذا البحث الضافي يثبت حقيقة ناصعة ، وهي عدم تمكّن الأُمّة ، مع ما لها من الفضل ، من القيام بسدِّ الفراغات الهائلة التي خلّفتها رحلة النبيّ الأكرم ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ ويبطل بذلك الاحتمال الثاني تجاه التشريع الإسلامي بعد عصر الرسالة. فيتعين الاحتمال الثالث الذي ندرسه تالياً.
دراسة الاحتمال الثالث
أن يستودع صاحب الدعوة ، كلّ ما تلقّاه من المعارف والأحكام بالوحي ، وكلّ ما ستحتاج إليه الأُمّة بعده ، شخصيّة مثالية ، لها كفاءة تقبُّل هذه المعارف والأحكام وتحمّلها ، فتقوم هي بسدِّ هذا الفراغ بعد رحلته ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وبعد بطلان الاحتمالين الأوّلين لا مناص من تعيُّن هذا الاحتمال ، فإنّ وجود إنسان مثالي كالنبيّ في المؤهّلات ، عارف بالشريعة ومعارف الدين ، ضمان لتكامل المجتمع ، وخطوة ضرورية في سبيل ارتقائه الروحي والمعنوي ، فهل يسوغ لله سبحانه أن
__________________
(١) لاحظ حياة محمد ، لمحمّد حسين هيكل ، الطبعة الثالثة عشرة : ٥٠٤٩.