وإرادة أن يتركوا لأولادهم وأحفادهم موردا يعيشون به : إذا كان من الواقفين من هم على هذه الصفة فإن أكثرهم على خلاف ذلك لا محالة ، وقد رأينا في صكوك أحباسهم أنهم وقفوها على الجوامع والمدارس والكتاتيب والخانات والحمامات وعلى إنشاء القلاع وإعاشة القائمين عليها من المرابطين وعلى أبناء السبيل. إذا عرفت هذا وشاهدت ما أبقوه من هذه الآثار الجسيمة النافعة التي ساعدوا بها على نشر المعارف والعلم وعمروا بها المملكة ، فليس من الإنصاف أن تقدم الأصل على الفرع وتذهب إلى سوء الظن فيهم. قال : وإذا جئنا نبحث عن المبالغ التي أنفقت على هذه الأوقاف وعما إذا اكتسبت من وجوه محللة ، فأنا معك بأن كل هذه الخيرات لم تتم بالمال الطيب ، أما وقد جمعت تلك الأموال بصور مختلفة فإن إنفاقها بما ينفع العامة من الأعمال الصالحة أزين في العاقبة وأدعى إلى المحمدة ، من صرفها في الإسراف والسفاهة ، وحابسها يذكر بالرحمة ، ويستفيض اسمه المسجل في عداد المتصدقين.
هذا ما ارتآه الوزير التركي وفي كلامه نظر عند العقلاء إذ أي طاعة تثبت في جنب تلك المعاصي. ولعمري متى ساغ للمرء أن يأكل أموال الناس بالباطل ، ثم يتصدق بها أو ببعضها ويحمد الخالق والخلق أثره. وقد أحسن هذا الوزير بقوله : إن صرفها في هذه السبيل أولى من غيره على كل حال.
قال حجة الإسلام الغزالي : أرباب الأموال والمقتّرون منهم فرق ، ففرقة يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ، ويبقى بعد الموت أثرهم ، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، وقد افتروا فيه من وجهين : أحدهما أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والجهات المحظورة ، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها ، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها ، وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها ، فإذا قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله تعالى ، وردها إلى ملّاكها إما بأعيانها أو برد بدلها عند العجز ، فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب ردّها إلى الورثة ، فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح.