تامة ، ورابطته متينة ، وقيادته موحدة ، فلما ضعفت مميزاته ، انحلت المملكة وانقسمت إلى مملكتين : مملكة الروم الشرقية وعاصمتها القسطنطينية ، ومملكة الروم الغربية وعاصمتها رومية. وكان نصيب هذا القطر أن يقع في حصة المملكة الشرقية في القسمة. وهذه المملكة هي التي حاربتها جيوش العرب لما جاءت لفتح الشام.
وكان الجيش الرومي الذي قاتل العرب على اليرموك وفي دمشق وفحل وأجنادين وقيسارية وبيسان وقنسرين وإيلياء مؤلفا من الروم ومن العرب المتنصرة ومن الأرمن ، وجمهرته الروم ، وإذ كان جيشا مرتجلا لم يدرب زمنا وكان جيش العرب روحا واحدا ، كتبت له الغلبة على قلته وكثرة عدد أعدائه وعددهم ، فنال الجيش العربي من الروم ، وإن كانوا لأول أمرهم مشهورين بالطاعة لسادتهم ، ولما جاءتهم العرب كان أمرهم قد انحلّ ، وميزاتهم قد ضعفت ، بل أصبح جيشهم مثال الجيوش المتفسخة ، ووقعتهم على الواقوصة في اليرموك مع العرب من أدهش أمارات الضعف والغفلة.
كان الجيش العربي مشهورا بنظامه وطاعته لقواده ، ومهارة هؤلاء وحنكتهم ، وكانت للعرب عناية خاصة بالاحتفاظ بخطوط رجعتهم ، ولكن أية رجعة لجيش منه من جاء من مكان قصي يبلغ طوله ألفي كيلومتر ، ومنه من أقل ومنه من أكثر ، وإذا فرضنا أن مدينة الرسول كانت أس الحركات الحربية ، وأن العرب كانوا قد فتحوا الحجاز كله يوم جاءوا لفتح الشام ، فجعلوا معسكرهم في أقصى حدودها الشمالية ، فخط الرجعة على كل حال لا يقل عن بضع مئات من الكيلومترات ، يمر في سباسب وبواد لا ماء في أكثرها ولا كلأ ، وكيف كان يتأتى الظفر لو لم يكن قلب كل جندي حصنا قائما بالإيمان ، معمورا بالطاعة للسلطان؟
كان الجيش الذي فتح الشام مخفا مقلا من كل شيء ، مقلا من الزاد ، مقلا من السلاح ، مقلا من الظهر ، والخيول قليلة فيه والإبل أكثر ، والإبل تصبر على العطش أياما، أما الجند العربي فكان يصبر على الجوع والعطش معا. قال جويدي : تعلمت العرب صناعة الحرب من الفرس والروم وكان ذلك سببا لدخول ألفاظ رومية وفارسية كثيرة في لغتهم.