القميص من قبل ومن دبر دليل ظنيّ ضعيف ، والعدول عن الحجّة الواضحة القاطعة (١) حال حصولها إلى الدلالة الظّنية لا يجوز.
الثاني : أنه ـ تبارك وتعالى ـ قال : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) يشير بذلك إلى أنّ شهادة الشّاهد على قريبه ، أولى بالقبول من شهادته له ؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه ، لا أن يشهد عليه ، وهذا التّرجيح إنما يصار إليه إذا كانت دلالة الشّهادة ظنية ، وذلك إنّما يكون في شهاة الرجل ، ولو كان هذا القول صادرا من الصّبي الذي كان في المهد ، لكان قوله حجّة قاطعة ، ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها ، وبين ألا يكون ، وحينئذ لا يبقى لهذا القيد وجه.
الثالث : أن لفظ الشّاهد لا يقع في العرف ، إلا على من تقدّمت معرفته بالواقعة ، وإحاطته بها.
القول الثالث : أن هذا الشاهد هو القميص ، قال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ الشاهد : «قد قميصه من دبر» ، وهذا في غاية الضعف ؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
واعلم أنّ القول الأول عليه إشكال ، وذلك أنّ العلامة المذكورة لا تدلّ قطعا على براءة يوسف من المعصية ؛ لأن من المحتمل أنّ الرجل قصد المرأة لطلب الزّنا ، والمرأة غضبت عليه ، فهرب الرجل ، فعدت المرأة خلف الرجل ، وجذبته لقصد أن تضربه ضربا وجيعا ، فعلى هذا الوجه يكون قدّ القميص من دبر ، مع أنّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب](٢) وأنّ الرجل يكون مذنبا.
جوابه : أنّا بيّنا أنّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين ، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى ، لا لأجل أن يعوّلوا في الحكم عليها ، بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقدمات ، والمرجّحات.
قوله : «إن كان ...» هذه الجملة الشرطية ، إما معمولة لقول مضمر تقديره : «فقال» إن كان عند البصريين ، وإمّا معمولة «لشهد» ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله (مِنْ دُبُرٍ ..) ، و «من قبل ...» قرأ العامّة جميع ذلك بضمتين ، والجر والتنوين ، بمعنى : من خلف ، ومن قدام ، أي : من خلف القميص ، وقدامه وقرأ الحسن ، وأبو عمرو (٣) في رواية بتسكين العين تخفيفا ، وهي لغة الحجاز ، وأسد ، وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات ، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وابن يعمر](٤) أيضا (٥) بسكون العين وبنائهما على الضم ووجه ضمهما : أنّهم جعلوهما ك «قبل ، وبعد» في
__________________
(١) في ب : القائمة.
(٢) في ب : الكذب.
(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٦ والبحر المحيط ٥ / ٣٩٧.
(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣ / ٢٣٦ وقرأ بها أيضا الجارود ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٩٧ والدر المصون ٤ / ١٧١.
(٥) سقط في : ب.