ومع الالتفات إلى هذه المقدمة نقوم بشرح الاية المذكورة.
عند ما نزلت بعض الامثال القرآنية بدأ المنافقون بالترديد في المسألة والاشكال فيها والقول : (ما هذه الامثال التي جاءت في القرآن)؟ إنّ شأن الله أرفع من ان يمثل بموجودات ضعيفة مثل الذباب (١) والعنكبوت ، او ان يمثل بموجودات جامدة مثل الرعد والبرق (٢) وقد كانوا يهدفون من هذا الحديث القاء التشكيك في الهية القرآن ومصدره الرباني ، وان القرآن ليس من الوحي الالهي.
بالطبع ، لو لم تنزل هذه الايات والامثال او نزلت بكلمات وصياغات معقدة لتمسك المنافقون ـ قطعاً ـ بذرائع اخرى ولقالوا : (كيف يمكن لهذا ان يكون كلام الله مع انا لا نفهم منه شيئاً)؟ او لقالوا : (لماذا لم ينزل الله هذه المفاهيم والحقائق بلغة بسيطة يفهمها الجميع)؟ كما ان هذا قد حصل لشعيب عليهالسلام وقد حكته الآية الشريفة (٩١) من سورة هود :
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ ما نَفْقَه كَثِيراً مِمّا تَقُولُ وَإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاك وَمَا أنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)
يستفاد من الآية ان التمسك بالذرائع كان منطقهم ، من جانب اخر كانوا يقولون : (لا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمّا تَقُولُ) أي لا نفهم ما تقول ، ومن جانب اخر يقولون : (لَوْلا رهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) أي لو لا قبيلتك لقتلناك فيجيبهم شعيب عليهالسلام : (قَالَ يَا قَوْم أرَهْطِى أعزُّ عَليْكُمْ مِنَ الله؟!) (٣)
بما ان المنافقين اللجوجين كانوا يشككون ويحتجون على التمثيل بالجمادات او الموجودات الضعيفة جاءت الاية ٢٦ من سورة البقرة لتجيب عليهم وتدحض حججهم : (إنّ اللهَ لا يَسْتَحِي أنْ يضرِبَ مَثلاً ما بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَها ...)
إنّ بلاغة الكلام تقتضي تارة التمثيل بالموجودات الكبيرة وتارة بالموجودات الصغيرة ؛ فكلما اريد من التمثيل بيان العظمة شبّه بشيء كبير ، واذا ما اريد بيان ضعف الشيء وخواءه
__________________
(١) الآية ٧٣ من سورة الحج : «يَا أيّهَا النَّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فاسْتَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والمَطْلُوبُ».
(٢) يأتي شرحها في المثل الأول والثاني.
(٣) هود الآية ٩٢ ـ ٩٣.