وذكاء كذكاء وفهم ابو علي ابن سيناء ، وحتى لو استطاع أن يتواصل مع امه لتحكي له عن القمر والشمس والليل والنهار والنجوم والاشجار والأزهار والنباتات ، وقد استطاعت أن تبيّن له هذه الأمور بأفصح بيان وأبلغه ، رغم ذلك فهو سوف لا يفهم شيئاً. إنَّ مثلنا نحن بالنسبة إلى البرزخ كمثل هذا الطفل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، نحن سمعنا بوجود عالم باسم البرزخ قطعاً ، لكن ما هي الف باء تلك الحياة؟ ما معنى أنّ الشهداء هناك أحياء؟ كيف أنهم يرزقون في ذلك العالم؟ كيف يعذّب الله الروح أو ينعم عليها؟
نحن لا ندرك أياً من هذه الامور. إنّ بعض اولياء الله استطاع أن يتصل بعالم البرزخ فسأل أهل البرزخ عن ذلك العالم فأجابوه لا يمكننا وصف هذا العالم بالألفاظ والمفاهيم التي تدركونها انتم في الحياة الدنيا. إنّ مثل مفاهيم البرزخ وألفاظ الدنيا كمثل المصفاة والماء ، وهل يتوقف الماء في المصفاة؟!
إنَّ موقف البرزخيين تجاه مفاهيم القيامة كموقفنا تجاه البرزخ لا يمكنهم استيعاب نعم الجنة ، كما لا يمكنهم استيعاب أنواع العذاب في جهنّم.
وعلى هذا الأساس ، تقول الآية الشريفة ١٧ من سورة السجدة : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُم مِنْ قُرَّةِ أعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
إذا أخذنا مفردة (نفس) باطلاقها كانت شاملة للأنبياء والائمة ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وذلك يعني هؤلاء أيضاً لا يعلمون ما أُعدَّ للمؤمنين من نعم في الجنة.
جاء في حديث قدسي ما يلي : «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشرٍ». (١)
أي أنَّها نعم لم ترَ في المنام ولا في اليقظة ولا في عالم الخيال ولا التصور ، وذلك لأنّ عالم القيامة لا يمكن استيعابه.
وعلى هذا ، فمن جهةٍ أنَّ مفاهيم عالم القيامة مفاهيم لا يمكن استيعابها وإدراكها ، ومن جهة أخرى ينبغي بيان نعم الجنة وعذاب الآخرة بشكل يسوق البشر نحو الأعمال الحسنة ويبعدهم عن الأعمال السيئة.
__________________
(١) ميزان الحكمة ، الباب ٥٤٦ ، الحديث ٢٥٢٩.