وتحقيق الخلاف في ذلك بيننا وبينهم أن ألفاظ العموم يدعون أنها موضوعة للاستغراق في اللّغة مختصّة به ، إذا استعملت فيما دونه كانت مجازا ، ونحن نقول : أنّ هذه اللّفظة تصلح في وضعهم للاستغراق وما دونه ، وهي في الأمرين حقيقة ، فمن تكلّم بها وأراد العموم ، كان متكلّما بها على حقيقتها ، وكذلك إذا أراد الخصوص ، فإنّها حقيقة فيه ، فكونها حقيقة في العموم لا نزاع فيه وإنّما الاختلاف في الاشتراك أو الاختصاص (١).
[الثالث] : فصل في أنّه تعالى يجوز أن يخاطب بالعموم
ويريد به الخصوص
إعلم أنّه لا شبهة في ذلك على مذهبنا في العموم ؛ لأنّا نذهب إلى أنّ ألفاظ العموم حقيقة في العموم والخصوص معا ، فمن أراد كلّ واحد من الأمرين بها ، فما خرج عن الحقيقة إلى المجاز. وعلى مذهب من خالفنا وقال : أنّ هذه الألفاظ موضوعة للاستغراق دون غيره ، وأنّها إذا استعملت في الخصوص ، كانت مجازا ، فكلام واضح ؛ لأنّ الله تعالى قد يجوز أن يخاطب بالمجاز ، كما يخاطب بالحقيقة ، وفي القرآن من ضروب المجاز ما لا يحصى. وأكثر ألفاظ القرآن الّتي ظاهرها العموم قد أريد بها الخصوص.
غير أنّه لا بدّ في الخطاب بالمجاز من وجه في المصلحة زائد على وجهها في الخطاب على جهة الحقيقة ، ويمكن أن يكون الوجه في ذلك التعريض لزيادة الثواب ؛ لأنّ النظر في ذلك والتأمّل له يشقّ ، ويستحقّ به زيادة الثواب ، كما نقوله في حسن الخطاب بالمتشابه. ويجوز أن يعلم أنّه يؤمن عند ذلك ويطيع من لولاه لم يطع.
ولا يجوز أن تتساوى الحقيقة والمجاز عند الحكيم في جميع الوجوه ،
__________________
(١) الذريعة ، ١ : ٢٠١.