ويمكن في الآية وجه آخر : وهو أن يكون المراد بها أنّ الأمر ينتهي إلى ألّا يكون موجود قادر غيره ، ويفضي الأمر في الانتهاء إلى ما كان عليه في الابتداء ، لأنّ قبل إنشاء الخلق هكذا كانت الصورة ، وبعد إفنائهم هكذا يصير وتكون الكناية برجوع الأمر إليه عن هذا المعنى ، وهو رجوع حقيقيّ ، لأنّه عاد إلى ما كان عليه متقدّما.
ويحتمل أيضا أنّ المراد بذلك أنّ إلى قدرته تعود المقدورات ، لأنّ ما أفناه من مقدوراته الباقية كالجواهر والأعراض ترجع إلى قدرته ، ويصحّ منه تعالى إيجاده لعوده إلى ما كان عليه ، وإن كان ذلك لا يصحّ في مقدورات البشر وإن كانت باقية ؛ لما دلّ عليه الدليل من اختصاص مقدور القدر باستحالة العود إليها ، من حيث لم يجز فيها التقديم والتأخير ، وهذا أيضا حكم ، هو تعالى المتفرّد به دون غيره من سائر القادرين ، والله أعلم بما أراد (١).
ـ (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [البقرة : ٢١٢].
[إن سأل سائل] فقال : أيّ تمدّح في الإعطاء بغير حساب ، وقد يكون المعطي بحساب أجزل عطية من المعطى بغير حساب؟
الجواب : قلنا في هذه الآية وجوه :
أوّلها : أن تكون الفائدة أنّه تعالى يرزق من يشاء بغير تقدير من المرزوق ولا احتساب منه ، فالحساب ههنا راجع إلى المرزوق لا إليه تعالى : كما يقول القائل : «ما كان كذا وكذا في حسابي» أي لم أؤمله ولم أقدّر أنّه يكون ؛ وهذا وصف للرزق بأحسن الأوصاف ؛ لأنّ الرزق إذا لم يكن محتسبا كان أهنأ له وأحلا ؛ وقد روى عن ابن عباس «رضي الله عنه» في تفسير هذه الآية أنّه قال : عنى بها أموال بني قريظة والنضير ، وإنّها تصير إليكم بغير حساب ولا قتال ، على أسهل الأمور وأقربها وأيسرها.
وثانيها : انّه تعالى يرزق من يشاء رزقا غير مضيّق ولا مقترّ بل يزيد في السعة
__________________
(١) الأمالي ، ١ : ٣٦٢.