لم يكن له ذلك فيكون فعله قبيحا يؤاخذ به ، ويحاسب عليه ، فنفى الله تعالى عن نفسه أن يفعل من الرزق القبيح ، وما ليس له أن يفعله بنفي الحساب عنه ، وأنبأ أنّه لا يرزق ولا يعطى إلّا على أفضل الوجوه وأحسنها وأبعدها من الذمّ ؛ وتجرى الآية مجرى قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (١) ، وإنّما أراد أنّه تعالى من حيث وقعت أفعاله كلّها حسنة غير قبيحة لم يجز أن يسأل عنها وإن سئل العباد عن أفعالهم ، لأنّهم يفعلون الحسن والقبيح معا.
وسابعها : أنّ الله تعالى إذا رزق العبد وأعطاه من فضله كان الحساب عن العبد ساقطا من جهة الناس ، فليس لأحد أن يقول له : لم رزقت؟ ولا يقول لربّه : لم رزقته؟ ولا يسأله ربّه عن الرزق ، وإنّما يسأله عن إنفاقه في الوجوه التي ينفقه فيها ، فيسقط الحساب من هذه الوجوه عمّا يرزقه الله تعالى ، ولذلك قال تعالى : (بِغَيْرِ حِسابٍ).
وثامنها : أن يكون المراد ب (مَنْ يَشاءُ) أن يرزقه من أهل الجنّة ، لأنّه يرزقهم رزقا لا يصحّ أن يتناول جميعه الحساب ، ولا العدد والإحصاء من حيث لا نهاية له ولا انقطاع للمستحقّ منه ؛ ويطابق هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢) (٣).
ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ٢١٧].
أنظر البقرة : ٢٠٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٤.
ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة : ٢١٩].
__________________
(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٣.
(٢) سورة غافر ، الآية : ٤٠.
(٣) الأمالي ، ١ : ٣٧٦.