[التاسع] : فصل في أنه لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت فعله
اختلف الناس في ذلك : فذهب قوم من المتكلّمين ومن أصحاب الشافعيّ إلى أنّه جائز أن تنسخ العبادة قبل وقت فعلها ، وذهب أكثر المتكلّمين وأصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعيّ إلى أنّه غير جائز ، وهو الصحيح.
والّذي يدلّ عليه وجهان : أحدهما : أنّه يقتضي البداء ؛ لأنّ شروط البداء الّتي تقدّم ذكرها حاصلة هيهنا. والوجه الآخر : أن ذلك يقتضي إضافة قبيح إلى الله تعالى إمّا الأمر أو النهي ؛ لأنّ الفعل لا يخلو من أن يكون قبيحا ، فالأمر به قبيح ، أو حسنا ، فيكون النهي عنه قبيحا.
وليس يمكنهم أن يقولوا : ان المكلّف ليس بواحد ، ولا الوقت ؛ لأنّه إبطال للمسألة ، من حيث كان الخلاف في هل يجوز أن ينسخ عن كلّ مكلّف بعينه ما أمر به في وقت بعينه بالنهي قبل حضور الوقت ، فعدلوا عن ذلك إلى الشرطين الأخيرين ، إمّا كون الفعل واحدا ، أو كون الوجه أو الشرط واحدا. وتغاير الفعل لا يمكن فيه إلّا وجوه ثلاثة : أحدها : أنّ النهي متناول للفعل ، والأمر الأوّل يتناول الاعتقاد. وثانيها : أنّ النّهي تناول مثل الفعل الّذي تناوله الأمر الأوّل. وثالثها : أن يتناول الثاني خلاف ما تناوله الأوّل ؛ لأنّه لا يمكنه أن يقول : يتناول ضدّ ما تناوله الأول ؛ لأنّه يوجب أنّه تعالى لم يكن ناهيا عن ضدّ ما يوجبه ويلزمه ، وصار الآن ناهيا عنه ، وضدّ الواجب لا يجوز أن يتغيّر ، فلا مدخل لذلك في النسخ.
والّذي يبطل أن يكون النّهي تناول مثل ما تناوله الأمر أنّ الفعلين إذا اختصّا بوقت واحد والوجه واحد لم يجز أن يكون أحدهما مصلحة والأخر مفسدة ، والأمر الأوّل يجمعهما ، فكذلك النّهي الثّاني ، ولأنّ التمييز بينهما غير ممكن ، فلا يجوز أن يتناول التكليف أحدهما دون الآخر.
وأمّا الاعتقاد فإنّهم يقولون : إنّه تعالى أمر بالفعل الأوّل وأراد الاعتقاد ، وتناول النّهي الّذي بعده نفس الفعل.