أوّلها : أن يريد أنّكم تعلمون أنّ الأنداد التي هي الأصنام وما جرى مجراها التي تعبدونها من دون الله تعالى لم ينعم عليكم بهذه النعم التي عدّدها ولا بأمثالها ، وأنّها لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تبصر ؛ ومعلوم أنّ المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام ما كانوا يدّعون ولا يعتقدون أنّ الأصنام خلقت السماء والأرض من دون الله ولا معه تعالى ؛ فالوصف لهم هاهنا بالعلم إنّما هو لتأكيد الحجّة عليهم. ويصحّ لزومها لهم ؛ لأنّهم من العلم بما ذكرناه ويكونون أضيق عذرا.
والوجه الثاني : أن يكون المراد بقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعقلون وتميّزون ، وتعلمون ما تقولون وتفعلون ، وتأتون وتذرون ، لأنّ من كان بهذه الصفة فقد استوفى شروط التكليف ، ولزمته الحجّة ، وضاق عذره في التخلّف عن النظر وإصابة الحقّ.
ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١) ، و (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢).
والوجه الثالث : ما قاله بعض المفسّرين كمجاهد وغيره أنّ المراد بذلك أهل الكتابين التوارة والإنجيل خاصة. ومعنى (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي أنّكم تعلمون أنّه إله واحد في التوراة والإنجيل.
فعلى الوجهين الأولين لا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ)؛ لأنّ علمهم تعلّق بشيء ، وجهلهم تعلّق بغيره. وعلى الوجه الثالث إذا جعل الآية التي سئلنا عنها مختصّة بأهل الكتاب أمكن أن تجعل الآية التي وصفوا فيها بالجهل تتناول غير هؤلاء ؛ ممّن لم يكن ذا كتاب يجد فيه بيان التوحيد ؛ وكلّ هذا واضح بحمد الله (٣).
ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣].
__________________
(١) سورة الزمر ، الآية : ٩.
(٢) سورة فاطر ، الآية : ٢٨.
(٣) الأمالي ، ٢ : ١٦٣.