والكثرة على كلّ عطاء للمخلوقين ، فيكون نفى الحساب فيه نفيا للتضييق ، ومبالغة في وصفه بالسعة ، والعرب تسمّى العطاء القليل محسوبا ، قال قيس بن الخطيم :
أنّي سربت وكنت غير سروب |
|
وتقرّب الأحلام غير قريب |
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه |
|
في النوم غير مصرّد محسوب |
وثالثها : أن يكون المعنى أنّه يرزق من يشاء من غير حساب أي من غير طلب للمكافأة أو إراغة فائدة تعود إليه أو منفعة ترجع عليه ، لانّ من شأن أهل الدنيا أن يعطوا ليكافئوا ولينتفعوا ، ولهذا يقال فيمن يقصد بالعطية إلى هذه الأمور : فلان يحاسب الناس فيما يعطيهم ويناقشهم فيما يوصّله إليهم ، وما أشبه ذلك ، فلمّا انتفت هذه الأمور من عطاياه سبحانه جاز أن يقول : إنّه يرزق من يشاء بغير حساب.
ورابعها : ما أجاب به قطرب ، قال : معنى الآية يعطى العدد الكثير لا ممّا يضبطه الحساب ، أو يأتي عليه العدد ، لأنّ مقدوره تعالى لا يتناهي ، وما في خزائنه لا ينحصر ، ولا يصحّ عليه النفاد ؛ وليس كالمعطي منّا الألف من الألفين ، والعشرة من المائة ؛ لأنّ مقدار ما يتّبع له ويتمكّن منه محدود متناه ، ولا تناهي ولا انقطاع لمّا يقدّر سبحانه عليه.
وخامسها : أنّه يعطى عباده في الجنّة من النعيم واللذّات أكثر ممّا استحقّوا وأزيد ممّا وجب لهم بمحاسبته إياهم على طاعتهم كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) (١) ، وكما قال عزوجل : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (٢) ، وكما قال تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣).
وسادسها : أن يكون المعطي منّا غيره شيئا والرازق سواه رزقا قد يكون له ذلك ، فيكون فعله حسنا لا يسأل عنه ، ولا يؤاخذ به ، ولا يحاسب عليه ؛ وربّما
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٤٥.
(٢) سورة التغابن ، الآية : ١٧.
(٣) سورة فاطر ، الآية : ٣٠.