[إن سأل سائل] فقال : كيف يصحّ القول بأنّها رجعت وهي لم تخرج عن يده؟
الجواب : قلنا قد ذكر في ذلك وجوه :
أوّلها : أنّ الناس في دار المحنة والتكليف قد يغترّ بعضهم ببعض ، ويعتقدون فيهم أنّهم يملكون جرّ المنافع إليهم وصرف المضارّ عنهم ، وقد تدخل عليهم الشّبه لتقصيرهم في النظر ، وعدو لهم عن وجهه وطريقه ، فيعبد قوم الأصنام وغيرها من المعبودات الجامدة الهامدة التي لا تسمع ولا تبصر ، ويعبد آخرون البشر ، ويجعلونهم شركاء لله تعالى في استحقاق العبادة ؛ ويضيف كلّ هؤلاء أفعال الله عزوجل فيهم إلى غيره ، فإذا جاءت الآخرة ، وانكشف الغطاء واضطرّوا إلى المعارف زال ما كانوا عليه في الدنيا من الضلال واعتقاد الباطل ، وأيقن الكلّ أنّه لا خالق ولا رزاق ولا ضارّ ولا نافع غير الله فردوا إليه أمورهم ، وانقطعت آمالهم من غيره ، وعلموا أنّ الذي كانوا عليه من عبادة غيره ، وتأميله للضّرّ والنفع غرور وزور ، فقال الله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لهذا المعنى.
والوجه الثاني : أن يكون معنى الآية في الأمور أنّ الأمور كلّها لله تعالى ، وفي يده وقبضته من غير خروج ورجوع حقيقيّ ؛ وقد تقول العرب : «قد رجع عليّ من فلان مكروه» بمعنى صار إليّ منه ؛ ولم يكن سبق إليّ قبل هذا الوقت ، وكذلك يقولون : «قد عاد عليّ من زيد كذا وكذا» وإن وقع منه على سبيل الابتداء ، قال الشاعر :
وإن تكن الأيّام أحسنّ مرّة |
|
إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب |
أي صارت لها ذنوب لم تكن من قبل ؛ بل كان قبلها إحسان فحمل الآية على هذا المعنى شائع جائز تشهد له اللغة.
والوجه الثالث : أنّا قد علمنا أنّ الله تعالى قد ملّك العباد في دار التكليف أمورا تنقطع بانقطاع التكليف ، وإفضاء الأمر إلى الدار الآخرة ، مثل ما ملّكه الموالي من العبيد ، وما ملّكه الحكام من الحكم وغير ذلك ؛ فيجوز أن يريد الله تعالى برجوع الأمر إليه انتهاء ما ذكرناه من الأمور التي يملكها غيره بتمليكه إلى أن يكون هو وحده مالكها ومدبّرها.