النظرية الأخرى تقوم على رأي جماعة من الفلاسفة الذين ينكرون مادّية الجنّة والنّار ، وعلى هذا ذهبوا إلى عدم حاجة الجنّة إلى المكان المادّي بل هي في ماوارء عالم الحس والمادّة ، وقد تحدّث صدر المتألهين عن هذا الموضوع في كتاب الأسفار قائلاً :
«واعلم أنّ لكل نفس من نفوس السعداء في عالم الآخرة مملكة عظيمة الفسحة ، وعالماً أعظم وأوسع ممّا في السماوات والأرضين ، وهي ليست خارجة عن ذاته بل جميع مملكته ومماليكه وخدمه وحشمه وبساتينه وأشجاره وحوره وغلمانه كلها ، قائمة به ، وهو حافظها ومنشئها بإذن الله تعالى وقوته ، ووجود الأشياء الاخروية وإن كانت تشبه الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في بعض المرايا لكن يفارقها بالذات والحقيقة ، أمّا وجه المشابهة فهو أنّ كلا منها بحيث لا يكون في موضوعات الهيولى ولا في الأمكنة والجهات لهذه المواد ، وأن لا تزاحم بين أعداد الصور لكل منهما وأنّ شيئاً منهما لا يزاحم شيئاً في هذا العالم في مكانه أو زمانه ، فإنّ النائم ربما يراه في يقظة هذا العالم ، وهي مع كونها مغايرة لما في الخارج بالعدد لكن لا تزاحم ولا تضايق بينها .. وأمّا وجه المباينة فهو أنّ نشأة الآخرة والصور الواقعة فيها قوية الجوهر شديدة الوجود عظيمة التأثير إلذاذاً وإيلاماً ، وهي أقوى وأشد وآكد ، وأقوى من موجودات هذا العالم ، فكيف بالصور المنامية والمرآتية ، ونسبة النشأة الآخرة إلى الدنيا كنسبة الانتباه إلى نشأة النوم» (١).
وبالرغم من استخدامه لتعابير مختلفة بشأن المعاد فليس من السهل الحكم على رأيه من خلال هذه التعابير ، لكن من الواضح أنّ هذا التفسير للمعاد لا يتطابق مع ظاهر بل مع صريح القرآن ، بل يتناسب مع آراء الذين يعتبرون المعاد روحياً فقط ، فقد ورد في النص السابق أنّ الجنّة في داخل ذات الإنسان وفي نفسه وروحه وكل شيء هناك له صورة مثالية ، وكل شيء روحاني ، بل وأنّ الموجد له هي روح الإنسان!
لقد ذكرنا فيما سبق عشرات الآيات التي تثبت جسمانية المعاد ، وذلك ضمن عدّة مجاميع وبإمكان كل مجموعة أن تكون جواباً على مثل هذا الرأي.
__________________
(١). الاسفار الأربعة ، ج ٩ ، ص ١٧٦ الفصل ١٠.