أمّا في ما يخص العقوبات الأخروية فالمسألة أعمق من هذا بكثير ، فالآثار التكوينية للأعمال ونتائجها بالغة الأهميّة وقد تبقى ملازمة للإنسان إلى الأبد ، بل إنّ ذات العمل (كما ذكر في موضوع تجسّد الأعمال) يتجسد أمام الإنسان وبما أنّ ذلك العالم خالد ، فإنّ الأعمال الصالح منها والطالح تبقى خالدة مع الإنسان وتكون وسيلة إمّا لشقائه أو لسعادته.
وقد ذكرنا سابقاً أنّ ثواب وعقاب يوم القيامة يتصف بالآثار التكوينية وخواص العمل الذي أتى به الإنسان في الدنيا ، كمايقول القرآن الكريم : (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَاعَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّاكَانُوا بِهِ يَستَهزِئُونَ). (الجاثية / ٣٣) وجاء في قوله تعالى : (وَلا تُجْزَونَ إِلَّا مَاكُنتُمْ تَعمَلُونَ). (يس / ٥٤) وورد نفس هذا المضمون مع قليل من الاختلاف في آيات اخرى عديدة.
وبناءً على هذا لا يبقى هناك أي مجال لطرح هذا التساؤل وهو : لماذا لم يؤخذ بنظر الاعتبار التناسب بين الذنب والعقوبة؟
ينبغي أن يحلّق الإنسان في سماء السعادة بجناحي «الإيمان» و «العمل الصالح» لينال نعيم الجنّة الأبدي ولذّة القرب الإلهي ، فإن كان قد كسر جناحيه في لحظة من لحظات المجون أو خلال المائة سنة التي قضاها في هذه الدنيا ، فعليه أن يعيش إلى الأبد في الذلة والشقاء ، فالقضية هنا ليست قضيّة الزمان والمكان وحجم الجريمة ، بل هي قضية العلة والمعلول ، آثاره قصيرة المدى وبعيدة المدى ، فقد يكفي عود واحد من الثقاب لاحراق مدينة بأكملها ، وقد يؤدّي غرام واحد من بذور الشوك إلى تغطية صحراء واسعة بالاشواك بعد مدّة وجيزة ويكون سبباً دائمياً في ايذاء الإنسان ، كما قد تكفي عدّه غرامات من بذور الورد إلى تغطية صحراء شاسعة بأجمل الورود واشذاها رائحة تفوح منها العطور فتملأ النفوس والقلوب بهجة وارتياحاً.
فإن قال قائل ما التناسب بين عود الثقاب وإحراق مدينة بأكملها؟ وما العلاقة التناسبية بين عدّة بذور من الشوك أو من الورد وبين الصحراء الفسيحة؟
فهل هذا السؤال منطقي؟ من المؤكد ، كلّا.