الدليل تعييناً ـ كما إذا كان أحد النصّين راجحاً على الآخر ـ أو تخييراً ـ كما إذا لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر ـ لا تصل النوبة إلى البراءة.
أقول : أمّا ما صنعه الشيخ قدسسره من التقسيم والتعرّض للبحث عن كل قسم مستقلاً ففيه : أنّ ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد ، وهو عدم وصول التكليف إلى المكلف. وعمدة أدلة القول بالبراءة أيضاً شاملة لجميع الأقسام. وهذا هو الوجه لذكر الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية في المقام ، فانّ البحث عنها ليس من مسائل علم الاصول ، بل من مسائل الفقه كما هو ظاهر ، فذكرها في المقام إنّما هو لعموم الأدلة لها. واختصاص بعض الأدلة بالشبهة التحريمية لا يوجب تكثير الأقسام وإفرادها بالبحث مع كون الملاك في الجميع واحداً ، وشمول عمدة الأدلة أيضاً للجميع. فالصحيح ما صنعه صاحب الكفاية قدسسره من تعميم البحث لمطلق الشك في التكليف الجامع لجميع الأقسام.
ولكن يرد عليه أيضاً : أنّ إخراج تعارض النصّين على إطلاقه من بحث البراءة ممّا لا وجه له ، لما سنذكره إن شاء الله تعالى في مبحث التعادل والترجيح (١) من أنّ مقتضى القاعدة في التعارض هو التساقط والرجوع إلى عام فوقهما ، ومع عدمه يرجع إلى الأصل العملي ، ولا ينحصر التعارض بخصوص الخبرين ، بل يمكن وقوعه بين ظاهري الكتاب ، ويرجع فيه بعد التساقط إلى الأصل العملي بلا كلام وإشكال ، بل وكذا الحال إن وقع التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، وكان العموم في كل منهما ناشئاً من الاطلاق ، فيسقط كلا الاطلاقين لعدم جريان مقدّمات الحكمة ، ويرجع إلى الأصل العملي ، بل وكذا الحال لو
__________________
(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤٤٠ ، ٤٩٩