(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما)
وهذا هو النموذج الثاني الذي يعيش بين أبوين مؤمنين ، يتعهّدانه بالرعاية والحب والحنان ، ويبذلان كل ما لديهما من جهد في سبيل تنميته وتربيته ، حتى إذا بلغ مبلغ الرجال ، انفصل عن هذا الجوّ الإيماني ليندمج بالأجواء الاهية العابثة التي تمنعه عن الجدّية في الحياة ، وعن المسؤولية في عالم الفكر والعمل ، وتدفعه إلى مواجهة المواقف الفكرية العقيدية بطريقة اللّامبالاة التي ترفض بشكل سطحي ، وتقبل بشكل ارتجالي ، فيكفر لأنه لم يلتق الإيمان في مواقع التأمّل أو الحوار ، وينحرف لأنه ابتعد مع شهواته ولذاته عن خط الاستقامة.
ويبدأ صراعه مع والديه اللذين بلغا سنّ الكهولة أو الشيخوخة ، حول مسألة الإيمان والفكر ، فهما ، نتيجة امتزاج عاطفتهما بالابن ، يعيشان القلق الشديد على مصير ابنهما ومستقبله في الآخرة ، ويخشيان أشد الخشية أن يواجه عذاب الله في النار ، ولكن ابنهما يعيش الغرور الكافر ، والكبرياء الطاغي ، ويقف منهما موقف التعنيف والتأنيب والتأفف من هذه الشيوخة التي تريد أن تقف أمام شهواته ولذاته في معصية الله.
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) في احتقار واستهانة وتأفّف ، كما لو كانا عبئا ثقيلا عليه ، لأنهما يفرضان نفسيهما عليه ، ويتدخلان في حياته ، في الوقت الذي يرى نفسه في موقع لا يجوز معه لأحد أن يعترض على سلوكه ، لا سيّما ممن لا يملك الدرجة العليا من الفكر والتقدم في نظره. (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) بعد الموت الذي أتحوَّل فيه إلى تراب ، بفعل السنين الطويلة التي تفني كل نبضة للحياة التي تتحدثان عنها؟ (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فلم يعد أحد من الأمم التي عاشت في القرون السالفة إلى الحياة ليكون نموذجا حيّا للفكرة التي تطرحانها ، فلو كان هناك بعث ، لرأينا بعضا من هؤلاء ، ولكننا لم نر شيئا من ذلك ، مما يوحي بأن فكرة البعث أسطورة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة.