(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)؟!
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) في ما استطاع أن يصل إليه من أدلّة وبراهين ، في ما توصّل إليه عقله ، وما استفاده من وحي الله ، مما جعله يملك وضوح الروية في الموقع الأعلى الذي يمثله الله من ساحة وجوده وحركته ، وفي المصير الذي ينتهي إليه عنده من خلال عمله ، فعرف الفرق بين الحق والباطل ، والخط الفاصل بين الخطأ والصواب ، والخير والشرّ ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فاختلطت عليه الأشياء ، فلم يميز بين العمل الحسن والعمل السيّئ ، بسبب خضوعه لنوازعه الذاتية التي جعلها مقياس الحسن والقبح في الأشياء ، مما جعله ينظر إلى عمله السيّئ ، فيتطلع إليه بعين الرضى التي تجعله يرى القبيح حسنا ، فيخيّل إليه أنه يتحرك في الخير ، في الوقت الذي يتخبط فيه في وحول الشر.
وهذا هو الفرق بين من يملك قاعدة موضوعية منفصلة عن ذاته بحيث يخضع لها في نظرته إلى الأمور ، وبين من تحرّكه الأهواء الذاتية بحيث يختلط عليه عنصر الغريزة التي تثير الرغبة ، بعنصر المصلحة التي تحدّد الموقف ، فلا يتميز الموقف لدى هؤلاء في دائرة العمق الواقعي للمصلحة ، فيسقطون أمام النتائج السيئة في نهاية المطاف ، لأنهم تركوا عقولهم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) التي تهتز في ذواتهم وفي حياتهم ، فتهزلهم وجودهم في الحياة.
* * *
صفة مأوى المتقين
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) في صفتها الحسيّة التي تجتذب الإحساس الباحث عمّا يروي ظمأه ، ويشبع جوعه ، ويثير لذته ، (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير ، كما يتغير الماء الذي يطول مكثه في مكان واحد ، (وَأَنْهارٌ