الحكيم قوما بلغتهم وجرّد كلامه عمّا يقتضي العدول عن ظاهره ، فلا بدّ من أن يريد به ما تقتضيه المواضعة في تلك اللّفظة الّتي استعملها.
ومن شأن الحقيقة ان تجري في كلّ موضع تثبت فيه فائدتها من غير تخصيص ، إلّا أن يعرض عارض سمعي يمنع من ذلك ، هذا إن لم يكن في الأصل تلك الحقيقة وضعت لتفيد معنى في جنس دون جنس ، نحو قولنا : أبلق ، فإنّه يفيد اجتماع لونين مختلفين في بعض الذّوات دون بعض ؛ لأنهم يقولون : فرس أبلق ، ولا يقولون : ثور أبلق.
وإنّما أوجبنا اطّراد الحقيقة في فائدتها ؛ لأنّ المواضعة تقتضي ذلك ، والغرض فيها لا يتم إلّا بالاطّراد ، فلو لم تجب تسمية كلّ من فعل الضّرب بأنه ضارب ، لنقض ذلك القول بأنّ أهل اللّغة إنّما سمّو الضّارب ضاربا ، لوقوع هذا الحدث المخصوص الّذي هو الضرب منه.
وإنّما استثنينا المنع السمعي لأنّه ربما عرض في إجراء الاسم على بعض ما فيه فائدته مفسدة ، فيقبح إجرائه ، فيمنع السمع منه ، كما قلنا في تسميته تعالى بأنّه فاضل.
واعلم أنّ الحقيقة يجوز أن يقلّ استعمالها ، ويتغيّر حالها فيصير كالمجاز ، وكذلك المجاز غير ممتنع أن يكثر استعماله في العرف فيلحق بحكم الحقائق. وإنّما قلنا ذلك ، من حيث كان إجراء هذه الأسماء على فوائدها في الأصل ليس بواجب ، وإنّما هو بحسب الاختيار ، وإذا صحّ في أصل اللّغة التّغيير والتّبديل ، فكذلك في فرعها ، والمنع من جواز ذلك متعذّر. وإذا كان جائزا ، فأقوى ما ذكر في وقوعه وحصوله أنّ قولنا : غائط ، كان في الأصل اسم للمكان المطمئنّ من الأرض ، ثمّ غلب عليه الاستعمال العرفيّ ، فانتقل إلى الكناية عن قضاء الحاجة والحدث المخصوص ، ولهذا لا يفهم من إطلاق هذه اللفظة في العرف إلّا ما ذكرناه ، دون ما كانت عليه في الأصل. وأمّا استشهادهم على ذلك بالصلاة والصّيام ، وأنّ المفهوم في الأصل من لفظة الصلاة الدعاء ، ثمّ صار بعرف