ممّن له قدرة على الانتصاف منهم في أيّ وقت أراد ولا يخاف الفوت ، ولم يكن أيضا ممّن يعلم مقدار الحسنة والجزاء عليها والسيئة والأخذ بها.
وأيضا ؛ فإنّ السلطان يتألم إذا لم يقع مراده ويسرّ بوقوعه ، وكلّ هذه الاوصاف منتفية عن القديم تعالى ، ففرق بين الأمرين ، ولم يكن للقياس الذي اعتمدوا عليه معنى في هذا الموضع ، وإنّما يجب أن يجمع بين المتساويين بعلّة والامر هاهنا بخلاف ذلك.
ثم يقال لهم : إنّما كان يجب أن يكون عاجزا لو أراد منهم الطاعة إرادة اضطرار وإجبار ثم لم تقع ، فأمّا إذا أراد إرادة البلوى والاختبار فهذا ما لا يغبى إلّا على المسكين ، وإذا كان ذلك كلّه فلا يكون منّا التعجيز لله تعالى ، إذ فعل العباد ما لا يريده من الكفر ولم يفعلوا ما أراده من الإيمان ؛ لأنّه لم يرد أن يحملهم عليه حملا ويلجئهم إليه الجاء ، فيكون منهم على غير سبيل التطوّع.
وقد بيّن الله ذلك في كتابه فقال : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (١) فأخبر أنّه لو شاء لأحدث آية يخضع عندها الخلق ، ولكنّه لو فعل ذلك ما استحقّوا حمدا ولا جزاء ولا كرامة ولا مدحا ؛ لأنّ الملجأ لا يستحقّ حمدا ولا جزاء ، وإنّما يستحقّ ذلك المختار المستطيع وقد بيّن الله ذلك فقال : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٢) وقال الله عزوجل : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) (٣) فأخبر أنّه لا ينفع الإيمان إذا كان العذاب والإلجاء.
وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) (٤) فأخبر أنّه لا ينفع الإيمان في حال الالجاء.
وقال «عزوجل» : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٥) ، وقال الله تعالى : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ
__________________
(١) سورة الشعراء ، الآية : ٤.
(٢) سورة غافر ، الآية : ٨٤.
(٣) سورة غافر ، الآية : ٨٥.
(٤) سورة الأنعام ، الآية : ١٥٨.
(٥) سورة يونس ، الآية : ٩٠.