يكون الأمر قبيحا ؛ وإذا كان الأمر قبيحا لم يحسّنه أن يكون فيه لطف لبعض المكلّفين ؛ بل يمنع منه كما يمنع من أن يلطف لبعض المكلّفين بما هو قبيح في نفسه ؛ فلم يبق بعد إبطال هذا الوجه إلّا الوجهان الأخيران ؛ من الاستسلام لمن يقتلهم القتل الذي استحقّوه ، أو قتل بعضهم بعضا ؛ فقد روي أنّهم برزوا بأسيافهم ؛ واصطفّوا صفّين يضرب بعضهم بعضا ، فمن قتل منهم كان شهيدا ، ومن نجا كان تائبا.
ويمكن في الآية وجه آخر ؛ ما رأينا أحدا من المفسّرين سبق إليه ؛ وهو إن لم يزد في القوة على ما ذكروه لم ينقص عنه ؛ وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي اجتهدوا في التوبة ممّا أقدمتم عليه ، والندم على ما فات ، وإدخال المشاقّ الشديدة عليكم في ذلك ؛ حتّى تكادوا أن تكونوا قتلتم أنفسكم ؛ وقد يسمّى من فعل ما يقارب الشيء باسم فاعله ، ومذهب أهل اللغة في ذلك معروف مشهور ؛ يقولون : ضرب فلان عبده حتى قتله ، وفلان قتله العشق ، وأخرج نفسه ، وأبطل روحه ، وما جرى مجرى ذلك ؛ وإنّما يريدون المقاربة والمشارفة والمبالغة في وصف التناهي والشدّة ؛ فلمّا أراد تعالى أن يأمرهم بالتناهي والمبالغة في الندم على مافات ، وبلوغ الغاية القصوى فيه جاز أن يقول : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).
فإذا قيل طعنا على هذا الجواب : إنّما تسمّى مقاربة القتل قتلا مجازا وتوسّعا ، وحمل الكلام على حقيقته أولى!.
الجواب : أنّ الوجهين اللذين ذكرهما المفسّرون في هذه الآية من قتل بعضهم بعضا ، والاستسلام للقتل مبنيّان أيضا على المجاز ؛ وظاهر التنزيل بخلافهما ؛ لأنّ الاستسلام للقتل ليس بقتل على الحقيقة ؛ وإنّما سمّي باسمه من حيث يؤدّي إليه ، وكذلك قتل بعضهم بعضا مجاز ؛ لأنّ القاتل غير المقتول ؛ وظاهر الآية يقتضي أن القاتل هو المقتول.
وأمّا استشهادهم في تقوية هذا الوجه بقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يعنى