دليلنا بعد الإجماع المتقدّم : قوله تعالى : (وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) والاعتكاف : لفظ شرعي مفتقر إلى بيان ، والله تعالى لم يبينه في كتابه ، واحتجنا إلى بيان من غيره ، فلمّا وجدنا النبيّ لم يعتكف إلّا بصوم كان فعله ذلك بيانا للجملة المذكورة في الآية ، وفعله إذا وقع على وجه البيان كان كالموجود في أوجه الآية (١).
[الثاني :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الاعتكاف لا ينعقد إلّا في مسجد صلّى فيه إمام عدل بالناس الجمعة ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد الكوفة ومسجد البصرة ...
والحجة لنا ـ مضافا إلى الاجماع ـ طريقة الاحتياط وبراءة الذمة ؛ لأنّ من أوجب على نفسه الاعتكاف بنذر يجب أن يتيقّن براءة ذمّته منه ممّا وجب عليه ، ولا يحصل له اليقين إلّا بأن يعتكف في المواضع التي عيّناها ؛ ولأنّ الاعتكاف حكم شرعي ويرجع في مكانه إلى الشرع ، ولا خلاف في الأمكنة التي عيّناها مشروعة فيه ، ولا دليل على جوازه فيما عداها ، ولا اعتراض على ما قلناه بقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ)؛ لأنّ هذا اللفظ مجمل ، ولفظ المساجد هاهنا ينبئ عن الجنس لا عن الاستغراق ، ولا منافاة بينه وبين مذهبنا.
ويجوز أن يكون وجه تخصيص هذه المساجد الأربعة لتأكّد حرمتها وفضلها وشرفها على غيرها (٢).
[الثالث :] وممّا انفردت به الإمامية القول : بأنّ الاعتكاف لا يكون أقلّ من ثلاثة أيام ، ومن عداهم من الفقهاء يخالفون في ذلك ؛ لأنّ أبا حنيفة والشافعي يجوّزان أن يعتكف يوما واحدا (٣).
وقال مالك : لا إعتكاف أقلّ من عشرة أيام (٤) ، دليلنا على ما ذهبنا إليه الاجماع المتكرر.
__________________
(١) الناصريات : ٢٩٩.
(٢) الانتصار : ٧٢.
(٣) المحلّى ، ٥ : ١٨٠.
(٤) نفس المصدر.