[٣ ـ رفع الفاعل ونصب المفعول به] :
وإنّما رفع الفاعل ونصب المفعول تفرقة بينهما.
فإن قيل : فهلّا كان الأمر بالعكس؟ فالجواب : إنّ الفعل لمّا كان يطلب جملة من المفعولين أقلّها خمسة ، وهي المفعول المطلق ، والمفعول معه ، وظرف الزمان ، وظرف المكان ، والمفعول من أجله ، نحو قولك : «قام زيد وعمرا قياما يوم الجمعة أمامك خوفا من كذا» ، وأكثرها ثمانية ، وذلك إذا كان الفعل من باب ما يتعدى إلى ثلاثة مفعولين ، تقول : «أعلمت وعمرا بكرا زيدا منطلقا إعلاما يوم الجمعة أمامك خوفا منه» ، ولا يطلب من الفاعلين إلا واحدا ، نصبت طلبا للتخفيف ، ولم يرفع ولم يخفض لئلّا يتوالى به الثقل.
فلما استحق المفعول النصب لم يبق للفاعل إلا الرفع أو الخفض ، فكان الرفع به أولى من الخفض حيث كان الرفع أولا والخفض ثانيا عنه ، لأنّ الضمة من الواو بدليل أن الحركة بعض الحرف ، ألا ترى أنك إذا أشبعتها صارت حرفا والواو من حروف مقدم الفم لأنها من الشفتين والكسرة من الياء والياء من وسط اللسان ، والفاعل أولى من حيث مرتبته أن يقدّم على المفعول ، فأعطي الأول للأوّل مناسبة.
فإن قيل : فما الدليل على تقدّم مرتبة الفاعل؟ فالجواب : إنّ الدليل على ذلك كون الفعل مع الفاعل بمنزلة شيء واحد في بعض المواضع ، وليس هو كذلك مع المفعول.
فمن ذلك الخمسة الأمثلة من الفعل ، مثل : يفعلان ويفعلون وتفعلان وتفعلون وتفعلين ، ألا ترى أنّ إعراب الفعل قد جاء فيها بعد الفاعل ، لكونه قد تنزّل مع الفعل كالشيء الواحد وذلك ، نحو : «الزيدان يقومان» ، و «الزيدون يقومون»؟
وكذلك تسكينهم آخر الفعل في مثل «ضربت» ، دليل على تنزيلها منزلة كلمة واحدة ، ألا ترى أنّهم إنما فعلوا ذلك كراهة توالي أربعة أحرف متوالية التحريك ، وذلك لا يكره إلّا في كلمة واحدة. فلو لا أنّهما قد جعلا بمنزلة شيء واحد لما استكرهوا توالي الحركات فيسكنون.