شهواتهم وأهوائهم ، لأنهم لا يتحركون من موقع الفكر الجادّ ، والموقف المسؤول الباحث عن الحقيقة ، ولهذا كذبوا بالوحي تكذيبا عمليا متعمّدا. (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) فإن طبيعة الحقائق لا تتغير بسبب تكذيب الناس لها ، بل هي ثابتة مهما حاول الآخرون تغطيتها بوسائلهم الخاصة ، لأنها ستظهر في نهاية المطاف ، وسيعرف الجميع من خلال الواقع ، صدق الداعية أو كذبه.
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) فقد قص عليهم النبي من أنباء الأمم الماضية التي كفرت كما كفروا ، وكذبت كما كذبوا ، فنالهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة ما يوجب ازدجارهم عما هم فيه من ضلال لما تتضمنه تلك الأنباء من دواعي الاتّعاظ والاعتبار.
(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) في ما جاء به الوحي الإلهي من الأفكار والتعاليم والتشريعات التي تطابق المصلحة العميقة للإنسان في حياته ، لانسجامها مع الحكمة التي تضع الأشياء في مواضعها. ومن الطبيعي أن حركة الحكمة في الحياة خاضعة للالتزام بها من قبل الناس ، فلا فائدة منها إذا رفضوها وأصرّوا على عنادهم وتكذيبهم (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) لأن قيمة الإنذار إنما تكون بالعمل ، لأن دور المنذرين هو الإبلاغ ، والباقي دور الذين أنذروا.
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم ، ولا تتعقد من ذلك ، لتشعر بالإحباط والسقوط أمامهم ، وتابع سيرك ، واتركهم لمصيرهم الذي يستقبلونه في يوم القيامة ، (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) وهو الله (إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) لا ترتاح إليه النفوس ، بل تنكره لما يشتمل عليه من عذاب يواجهونه جزاء لأعمالهم ، (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) من الذلّة والخضوع ، (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور حائرين مذهولين ، (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) لكثرتهم ، بحيث يختلط بعضهم ببعض من دون أيّة فسحة أو فاصل بينهم ، (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين إلى دعوة الله للحساب والجزاء ، حيث (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) في ما يشتمل عليه من صعوبة وشدّة وخطورة على المصير.
* * *