فيقال لهم فيما تعلّقوا به أوّلا : إنّ طريق اكتساب العلم بالفرق بين الجماعة الّتي لا يجوز أن تكذب في خبرها وبين من يجوز ذلك عليه قريب سهل لا يحتاج فيه إلى دقيق النظر ولطيف الاستدلال ، وكلّ عاقل يعرف بالعادات الفرق بين الجماعة الّتي تقضي العادات بامتناع الكذب عليها فيما ترويه وبين من ليس كذلك ، والمنافع الدنيويّة من التجارات ووجوه التصرّفات مبنيّة على حصول هذا الفرق ؛ لأنّه مستند إلى العادة ، والتأمّل اليسير كاف فيه ، والدّواعي إلى حصوله قويّة ، لاستناد المعاملات كلّها إليه فلا يجب في العامّة ومن ليس من أهل التدقيق أن لا يعلموا مخبر هذه الأخبار.
ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثانيا : غير مسلّم لكم ما حدّدتم به العلم الضروريّ ، وما تنكرون أن يكون حدّه ما فعله فينا من هو أقدر منّا على وجه لا يتمكّن من دفعه ، فلا ينبغي أن تجعلوا ما تفرّدتم به من الحدّ دليلا على موضع الخلاف.
ويقال لهم فيما تعلّقوا به ثالثا : إنّ العلم بالفرق بين صفة الجماعة الّتي لا يجوز عليها الكذب ويمتنع التواطؤ فيها للعقلاء كالملجئين عند كمال عقولهم وشدّة حاجتهم إلى التفتيش والتصرّف إلى العلم بذلك لقوّة الدّواعي إليه والبواعث عليه ، وقد يحصل للعقلاء هذا العلم قبل أن يختصّ بعضهم بالاعتقاد الّذي ذكرتم أنّه صارف لهم ، فإذن لا يجب خلوّ مخالفينا من هذه العلوم على ما ادّعوه. ويلزم على هذا الوجه أن لا يكون أبو القاسم البلخيّ عالما بأن المحدثات تفتقر إلى محدث ؛ لأنّه يعتقد أنّ العلم بذلك ضروريّ ، واعتقاده هذا صارف له عن النظر ، فيجب أن لا يكون عالما بذلك ولا عارفا بالله تعالى ولا بشيء من صفاته ، فأيّ شيء قالوه في البلخيّ قلنا مثله فيما تعلّقوا به.
فإن قيل : إذا جوّزتم أن يكون العلم بالبلدان وما جرى مجراها ضروريّا ؛ فهل تشترطون في وقوع هذا العلم الشروط الّتي شرطها أبو عليّ وأبو هاشم ، أم تشترطون غيرها.
قلنا : لا بدّ من شرط نختصّ نحن به ، وهو أن يكون من أخبر بالخبر الّذي