فإن ادّعوا أنّ هذه اللفظة تجري على من أظهر الإيمان حقيقة ، واستدلّوا عليه بقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (١) ، وقوله عزوجل : (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) (٢) ، طولبوا بالدلالة على ما ادّعوه ، فإنّه يتعذّر عليهم. والآيتان اللّتان ذكروهما إنّما علمنا أنّ المراد بهما من أظهر الإيمان بدلالة ، والظاهر يقتضي خلاف ما حملناهما عليه.
وأيضا ؛ فإنّ الآية تضمّنت حظر اتّباع غير سبيل المؤمنين ، ولم يجر لسبيل المؤمنين ذكر ، ودليل الخطاب غير صحيح عندنا وعند أكثرهم ، فلا يجوز الرجوع إليه في هذه الآية.
وليس لأحد أن يقول : إنّ المراد بلفظة «غير» هيهنا الاستثناء ، كأنّه قال : «لا تتّبع إلّا سبيل المؤمنين» ، كما يقول أحدنا لغيره : «لا تأكل غير هذا الطعام» ، أي لا تأكل إلّا هذا الطعام ، ولا تلق غير زيد ، الّذي يفهم منه إيجاب لقائه.
وذلك أنّ لفظة «غير» هي بالصفة أحقّ منها بالاستثناء ، وإنّما استثني بها في بعض المواضع تشبيها لها بلفظة «إلّا» ، كما وصفوا في بعض المواضع بلفظة «إلّا» تشبيها لها بغير. وبعد ، فلو احتملت لفظة «غير» الصفة والاستثناء احتمالا واحدا ، ـ وليس الأمر كذلك ـ لكانوا يحتاجون في حملها على الاستثناء دون الصفة إلى دلالة. والّذي يبيّن الفرق بين ما جمعوا بينه أنّه يحسن أن يقول أحدنا لغيره : «لا تأكل غير هذا الطعام ولا هذا الطعام» ولا يجوز أن يقول : «لا تأكل إلّا هذا الطعام ولا تأكل هذا الطعام».
فإن قيل : متى لم يتبع غير سبيل المؤمنين ، فبالضرورة لا بدّ من كونه متّبعا لسبيلهم فحظر أحد الأمرين إيجاب للآخر.
قلنا : ليس الأمر كذلك ؛ لأنّه قد يجوز أن يحظر عليه اتّباع سبيل كلّ أحد ، ويلزم التعويل على الأدلّة ؛ لأنّ المفهوم من هذه اللّفظة أن يفعل المتّبع الفعل لأجل فعل المتّبع ، وقد يمكن أن ينهى عن ذلك كلّه.
__________________
(١) سورة النساء ، الآية : ٩٢.
(٢) سورة الممتحنة ، الآية : ١٠.