ويشكل حالهم مصروفا لعارض ، كما عارض مسيلمة ، فتمكين مسيلمة من معارضته دليل واضح على ما نقوله في الصرفة.
وقد بيّنا في كتابنا في جهة إعجاز القرآن أن من لم يقل في جهته ما اخترناه من الصرفة يلزمه سؤالان لا جواب عنهما إلّا لمن ذهب إلى الصرفة :
السؤال الأول : أن يقال : ما أنكرتم أن يكون القرآن من فعل بعض الجنّ ألقاه إلى مدّعي النبوّة ، وخرق به عادتنا ، وقصد بنا إلى الاضلال لنا والتلبيس علينا ، وليس يمكن أن يدّعى الإحاطه بمبلغ فصاحة الجنّ وأنها لا يجوز أن يتجاوز عن فصاحة العرب ، ومع هذا التجويز لا يحصل الثقة بأن الله تعالى هو المؤيّد بالقرآن لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد يمكن إيراد معنى هذا السؤال على وجه آخر ، فيقال : إنّ محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يدّع في القرآن أنه كلامه ، وإنّما ذكر أن ملكا هبط به إليه ، وقد يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا على ربّه ، وأن يكون القرآن الّذي نزل به من كلامه لا من كلام خالقه ؛ فإن عادة الملائكة في الفصاحة ممّا لا نعرفه ، وعصمة الملائكة قبل العلم بصحّة القرآن والنبوّة لا يمكن معرفتها ، فالسؤال متوجّه على ما ترويه.
وقد حكينا في كتابنا المشار إليه طرقا كثيرة لمخالفينا سلكوها في دفع هذا السؤال ، وبيّنا فسادها بما بسطناه وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات ، ونحن نذكر هاهنا ما لا بدّ من ذكره ممّا اعتمدوا عليه في دفع سؤال الجنّ أن قالوا : إن هذا استفساد للمتكلّمين وحكمته تعالى يقتضي المنع من الاستفساد.
وهذا غير صحيح ؛ لأن الّذي يمنعه أن يفعل الله تعالى الاستفساد ، فأمّا أن يمنع منه فليس بواجب ؛ لأن هذا يوجب أن يمنع الله تعالى كلّ ذي شبهة من شبهته ، وأن لا يمكن المتعبّدين المنخرقين من شيء دخلت منه شبهة على أحد.
وقد علمنا أن المنع من الشبهات وفعل القبائح في دار التكليف غير واجب ، وليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف.