صادقين عالمين بأنّهم إذا أخبروا عن ذلك صدقوا ـ فكأنّه قال لهم : خبّروا بذلك إن علمتموه ؛ ومتى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا ، فلا تكليف عليهم. وهذا بمنزلة أن يقول القائل لغيره : خبّرني بكذا وكذا إن كنت تعلمه ، وإن كنت تعلم أنّك صادق فيما تخبر به عنه.
فإن قيل : أليس قد قال المفسّرون في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّ المراد به : إن كنتم تعلمون بالعلّة التي من أجلها جعلت في الأرض خليفة ، أو إن كنتم صادقين في اعتقادهم أنّكم تقومون بما أنصب الخليفة له ، وتضطلعون به ، وتصلحون له؟.
قلنا : قد قيل كلّ ذلك ، وقيل أيضا ما ذكرناه ؛ وإذا كان القول محتملا للأمرين جاز أن يبنى الكلام على كلّ واحد منهما ؛ وهذا الجواب لا يتمّ لمن يذهب إلى أن الله تعالى لا يصحّ أن يأمر العبد بشرط قد علم أنّه لا يحصل ، ولا يحسن أن يريد منه الفعل على هذا الوجه ؛ ومن ذهب إلى جواز ذلك صحّ منه أن يعتمد على هذا الجواب.
فإن قيل : فأيّ فائدة في أن يأمرهم بأن يخبروا عن ذلك بشرط أن يكونوا صادقين ، وهو عالم بأنّهم لا يتمكّنون من ذلك لفقد علمهم به؟.
قلنا : لمن ذهب إلى الأصل الذي ذكرناه أن يقول : لا يمتنع أن يكون الغرض في ذلك هو أن ينكشف بإقرارهم وامتناعهم من الإخبار بالأسماء ما أراد تعالى بيانه من استئثاره بعلم الغيب ، وانفراده بالاطّلاع على وجوه المصالح في الدين.
فإن قيل : فهذا يرجع إلى الجواب الذي تذكرونه من بعد؟
قلنا : هو وإن رجع إلى هذا المعنى فبينهما فرق من حيث كان هذا الجواب على تسليم أنّ الآية تضمّنت الأمر والتكليف الحقيقيين.
والجواب الثاني : لا نسلّم فيه أنّ القول أمر على الحقيقة ، فمن هاهنا افترقا.