والوجه الثاني : أن يكون الأمر وإن كان ظاهره ظاهر أمر ، فغير أمر على الحقيقة ؛ بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجّة ؛ وقد يرد بصورة الأمر ما ليس بأمر ، والقرآن والشعر [وكلام العرب مملوء بذلك].
وتلخيص هذا الجواب أنّ الله تعالى لمّا قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) ؛ أي مطلّع من مصالحكم ، وما هو أنفع لكم في دينكم على ما لا تطلّعون عليه. ثمّ أراد التنبيه على أنّه لا يمتنع أن يكون غير الملائكة ـ مع أنّها تسبّح وتقدّس وتطيع ولا تعصي ـ أولى بالاستخلاف في الأرض ؛ وإن كان في ذرّيّته من يفسد ويفسك الدماء. فعلّم آدم عليهالسلام أسماء جميع الأجناس ، أو أكثرها ، وقيل أسماء محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة من ولده ، وفيه أحاديث مروية ، ثمّ قال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) مقرّرا لهم ومنبّها على ما ذكرناه ، ودالّا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به وفلمّا أجابوه بالاعتراف والتسليم إليه علم الغيب الذي لا يعلمونه ، فقال تعالى لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٢) منبّها على أنّه تعالى هو المتفرّد بعلم المصالح في الدين ، وأنّ الواجب على كلّ مكلّف أن يسلم لأمره ، ويعلم أنّه لا يختار لعباده إلّا ما هو أصلح لهم في دينهم ؛ علموا وجه ذلك أم جهلوه.
وعلى هذا الجواب يكون قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محمولا على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة ، أو في ظنّهم أنّهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة ويكملون له ؛ فلولا أنّ الأمر على ما ذكرناه ، وأنّ القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم وإقرارهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) معنى ، لأنّ التكليف الأوّل لا يتغير حاله بأن يخبرهم آدم عليهالسلام بالأسماء ، ولا يكون قوله :
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٣٠.
(٢) سورة البقرة ، الآية : ٣٣.