(إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر الآية إلّا مطابقا لما ذكرناه من المعنى ؛ دون معنى التكليف ؛ فكأنّه قال تعالى : إذا كنتم تعلمون هذه الأسماء ، فأنتم عن علم الغيب أعجز ؛ وبأن تسلموا الأمر لمن يعلمه ويدبّر أمركم بحسبه أولى.
فإن قيل : كيف علمت الملائكة بأنّ في ذرية آدم عليهالسلام من يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء؟ وما طريق علمها بذلك؟ وإن كانت غير عالمة فكيف يجوز أن تخبر عنه بغير علم!.
قلنا : قد قيل : إنّها لم تخبر وإنّما استفهمت ؛ فكأنّها قالت متعرفة : أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا؟
وقيل : إنّ الله تعالى أخبرها بأنّه سيكون من ذريّة هذا المستخلف من يعصي ويفسد في الأرض ، فقالت على وجه التعرّف لما في هذا التدبير من المصلحة والاستفادة لوجه الحكمة فيه : أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا؟.
وهذا الجواب الأخير يقتضى أن يكون في أوّل الكلام حذف ويكون التقدير :
(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وإني عالم أن سيكون من ذريته من يفسد فيها ، ويسفك الدماء ، فاكتفى عن إيراد هذا المحذوف بقوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) لأنّ ذلك دلالة على الأول ؛ وإنّما حذفه اختصارا.
وفي جملة جميع الكلام اختصار شديد ، لأنّه تعالى لمّا حكى عنهم قولهم :
(أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) كان في ضمن هذا الكلام : فنحن على ما نظنّه ويظهر لنا من الأمر أولى بذلك لأنا نطيع وغيرنا يعصي.
وقوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يتضمّن أيضا أنّني أعلم من مصالح المكلّفين ما لا تعلمونه ، وما يكون مخالفا تظنّونه على ظواهر الأمور.
وفي القرآن من الحذوف العجيبة ، والاختصارات الفصيحة ما لا يوجد في