فإن قيل : فما معنى الهبوط الذي أمروا به؟ قلنا : أكثر المفسّرين على أنّ الهبوط هو النزول من السماء إلى الأرض وليس في ظاهر القرآن ما يوجب ذلك ؛ لأنّ الهبوط كما يكون النزول من علوّ إلى سفل فقد يراد به الحلول في المكان والنزول به ؛ قال الله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) (١) ، ويقول القائل من العرب : هبطنا بلد كذا وكذا ، يريد حللنا ، قال زهير :
ما زلت أزمقهم حتى إذا هبطت |
|
أيدي المطيّ بهم من راكس فلقا (٢) |
فقد يجوز على هذا أن يريد تعالى بالهبوط [الخروج من المكان وحلول غيره ؛ ويحتمل أيضا أن يريد بالهبوط] غير معنى المسافة ، بل الانحطاط من منزلة إلى دونها ، كما يقولون : قد هبط عن منزلته ، ونزل عن مكانه ؛ إذا كان على رتبة فانحطّ إلى دونها.
فإن قيل : فما معنى قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)؟ قلنا : أمّا عداوة إبليس لآدم وذرّيّته فمعروفة مشهورة ، وأمّا عداوة آدم عليهالسلام والمؤمنين من ذرّيّته لإبليس فهي واجبة لما يجب على المؤمنين من معاداة الكفّار المارقين عن طاعة الله تعالى ، المستحقّين لمقته وعداوته ، وعداوة الحيّة على الوجه الذي تضمّن إدخالها في الخطاب لبني آدم معروفة ؛ ولذلك يحذّرهم منها ، ويجنّبهم ؛ فأمّا على الوجه الذي يتضمّن أنّ الخطاب اختصّ آدم وحوّاء دون غيرهما ؛ فيجب أن يحمل قوله تعالى : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) على أنّ المراد به الذرّية ؛ كأنّه قال تعالى «اهبطوا» وقد علمت من حال ذرّيتكم أنّ بعضكم يعادى بعضا ، وعلّق الخطاب بهما للاختصاص بين الذرّية وبين أصلها.
فإن قيل : أليس ظاهر قوله تعالى : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يقتضى الأمر بالمعاداة ، كما أنّه أمر بالهبوط ، وهذا يوجب أن يكون تعالى آمرا بالقبيح على
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ٦١.
(٢) ديوانه : ٣٧. راكس : موضع ، والفلق : المكان المطمئن بين ربوتين ؛ وهو منصوب على أنه مفعول به ؛ قيل : الفلق : الصبح.