ومن لم يجوّز تأخير البيان يقول : إنّ التكليف متغاير ؛ وإنّهم لمّا قيل لهم : اذبحوا بقرة لم يكن المراد منهم إلّا ذبح أيّ بقرة شاؤوا ، من غير تعيين بصفة ، ولو أنّهم ذبحوا أيّ بقرة اتّفقت كانوا قد امتثلوا الأمر ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة لا فارض ولا بكر ، ولو ذبحوا ما اختصّ بهذه الصفة من أيّ لون كان لأجزأ عنهم ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح بقرة صفراء ، فلمّا لم يفعلوا كلّفوا ذبح ما اختصّ بالصفات الأخيرة.
ثمّ اختلف هؤلاء من وجه آخر ، فمنهم من قال في التكليف الأخير : إنّه يجب أن يكون مستوفيا لكلّ صفة تقدّمت ، حتى تكون البقرة مع أنّها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث ، مسلّمة لاشية فيها ، [صفراء فاقع لونها ، ولا فارض ولا بكر]. ومنهم من قال : إنّما يجب أن يكون بالصفة الأخيرة فقط ، دون ما تقدّم.
وظاهر الكتاب بالقول المبنى على جواز تأخير البيان أشبه ، وذلك أنّه تعالى لمّا كلّفهم ذبح بقرة قالوا للرسول : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ)، فلا يخلو قولهم : (ما هِيَ) من أين يكون كناية عن البقرة المتقدّم ذكرها ، أو عن التي أمروا بها ثانيا ؛ على قول من يدّعي ذلك.
وليس يجوز أن يكون سألوا عن الصفة التي تقدّم ذكرها ، لأن الظاهر من قولهم «ما هى» بعد قوله لهم : اذبحوا بقرة يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها ؛ ولأنّه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى فيستفهموا عنها ؛ وإذا صحّ أنّ السؤال إنّما كان عن صفة البقرة المنكّرة التي أمروا في الابتداء بذبحها فليس يخلو قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) من أن يكون كناية عن البقرة الأولى ، أو عن غيرها ، وليس يجوز أن يكون ذلك كناية عن بقرة ثانية ، لأنّ ظاهر قوله : إنّها بقرة من صفتها كذا بعد قولهم : «ما هى» يقتضي أن يكون كناية متعلّقة بما تضمّنه سؤالهم ، ولأنّ الأمر لو لم يكن على ما ذكرناه لم يكن ذلك جوابا لهم ، بل كان يجب أن يكونوا سألوه عن شيء فأجابهم عن غيره ، وهذا لا يليق بالنبي عليهالسلام.
على أنّه لمّا أراد أن يكلّفهم تكليفا ثانيا عند تفريطهم في الأوّل على ما