أوّلها : أن يكون «ما» في قوله : «وما أنزل على الملكين» بمعنى الّذي ، فكأنّه تعالى أخبر عن طائفة من أهل الكتاب ، بأنّهم اتّبعوا ما تكذب به الشياطين على ملك سليمان ، وتضيفه إليه من السّحر ؛ فبرّأه الله تعالى من قرفهم ، وأكذبهم في قولهم ، فقال : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) باستعمال السّحر والتمويه على الناس ، ثمّ قال : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) وأراد أنّهم يعلّمونهم السّحر والذي أنزل على الملكين ، وإنّما أنزل على الملكين وصف السحر وماهيّته وكيفية الاحتيال فيه ؛ ليعرفا ذلك ويعرّفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه ، كما أنّه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ، ووصف لنا أعمال القبائح لنجتنبها لا لنوقعها ؛ لأنّ الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه ، وأقدموا على فعله ؛ وإن كان غيرهم من المؤمنين لمّا عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطّلاعه على كيفيته ، ثمّ قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) يعنى الملكين ، ومعنى «يعلّمان» يعلمان ، والعرب تستعمل لفظة «علّمه» بمعني «أعلمه» ، قال القطاميّ :
تعلّم أنّ بعد الغيّ رشدا |
|
وأنّ لتانك الغبر انقشاعا (١) |
وقال كعب بن زهير :
تعلّم رسول الله أنّك مدركي |
|
وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد (٢) |
ومعنى «تعلّم» في البيتين معنى «اعلم» (٣) ؛ والذي يدلّ أنّ المراد هاهنا الإعلام لا التعليم قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)، أي أنّهما لا يعرّفان صفات السحر وكيفيته إلّا بعد أن يقولا إنّما نحن محنة ، لأنّ الفتنة بمعنى المحنة ؛ وإنّما كان محنة ، بحيث ألقيا إلى المكلّفين أمرا لينزجروا عنه ، وليمتنعوا من مواقعته ، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه ، فقالا
__________________
(١) ديوانه : ٤٠ ؛ وفي بعض النسخ : «لهذه الغمر». وهي رواية الديوان والغمر : جمع غمرة ، وهي الشدة.
(٢) ملحقات ديوانه : ٢٥٨ (عن الغرر).
(٣) حواشي بعض النسخ : «قال ابن السكيت رحمهالله : يقال : تعلّمت أن فلانا خارج يعني علمت ، وإذا قال لك : اعلم أنّ زيدا خارج قلت : قد علمت ، وإذا قال : تعلم أن زيدا خارج لم تقل : قد تعلمت ؛ يعني أنّه يقتصر على ما ورد عنهم ، ولا يتجاوز إلى غيره».