الموفين؟ وكيف وحدّ الكناية في مواضع وجمعها في آخر؟ فقال : (مَنْ آمَنَ) و (وَآتَى الْمالَ) و (وَأَقامَ الصَّلاةَ)، ثمّ قال : (وَالْمُوفُونَ) و (وَالصَّابِرِينَ)؟.
يقال له : فيما ذكرته أوّلا جوابان :
أحدهما : أنّه أراد تعالى : ليس الصّلاة هي البرّ كلّه ؛ لكنّه ما عدّد في الآية من ضروب الطاعات وصنوف الواجبات ، فلا تظنّوا أنّكم إذا توجّهتم إلى الجهات بصلاتكم ، فقد أحرزتم البرّ بأسره ، وحزتموه بكماله ، بل يبقى عليكم بعد ذلك معظمه وأكثره.
والجواب الثاني : أنّ النّصارى لمّا توجّهوا إلى المشرق ، واليهود إلى بيت المقدس ، واتّخذوا هاتين الجهتين قبلتين ، واعتقدوا في الصلاة إليها أنّهما برّ وطاعة خلافا على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أكذبهم الله تعالى في ذلك ، وبيّن أنّ ذلك ليس من البرّ ، إذ كان منسوخا بشريعة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم التي تلزم الأسود والأبيض ، والعربي والعجميّ ، وأنّ البرّ هو ما تضمّنته الآية.
فأمّا إخباره «بمن» ففيه وجوه ثلاثة :
أوّلها : أن يكون معنى «البرّ» ههنا البارّ أو ذا البرّ ، وجعل أحدهما في مكان الآخر ؛ والتقدير : ولكنّ البار من آمن بالله ؛ ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (١) ، يريد غائرا ، ومثل قول الشاعر :
ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت |
|
فإنّما هي إقبال وإدبار (٢) |
أراد أنّها مقبلة مدبرة ، ومثله :
تظلّ جيادهم نوحا عليهم |
|
مقلّدة أعنّتها صفونا (٣) |
__________________
(١) سورة الملك ، الآية : ٣٠.
(٢) البيت للخنساء ؛ ديوانها : ٧٨ ، والكامل بشرح المرصفي : ٨ / ١٧٦ ، واللسان : ١٩ / ١٣٥ ، وتاج العروس : ٧٣ / ٨ ، وخزانة الأدب : ١٣٨ / ١ ، وهو في وصف بقرة وحشية ، وقبله :
فما عجول على بوّ تطيف به |
|
لها حنينان إصغار وإكبار |
(٣) البيت لعمرو بن كلثوم ؛ من المعلقة ـ بشرح التبريزي : ٢١٧.