بينهما فرقا ؛ لأنّ الأول مبنيّ على أنّ الحساب في الآية هو الجزاء والمكافأة على الأعمال ، وفي هذا الجواب لم يخرج الحساب عن بابه وعن معنى المحاسبة ، والمقابلة بالأعمال وترجيحها ، وذلك غير الجزاء الذي يفضي الحساب إليه.
وقد طعن بعضهم في الجواب الثاني معترضا على أبي عليّ الجبّائيّ في اعتماده إياه [بأن قال] : مخرج الكلام في الآية على وجه الوعيد ، وليس في خفّة الحساب وسرعة زمانه ما يقتضى زجرا ، ولا هو ممّا يتوعّد بمثله ؛ فيجب أن يكون المراد الإخبار عن قرب أمر الآخرة والمجازاة على الأعمال.
وهذا الجواب ليس أبو عليّ المبتدىء به ، بل قد حكي عن الحسن البصريّ ، واعتمده أيضا قطرب بن المستنير النحويّ : وذكره المفضّل بن سلمة ، وليس الطّعن الذي حكيناه عن هذا الطاعن بمبطل له ، لأنّه اعتمد على أنّ مخرج الآية مخرج الوعيد ، وليس كذلك ، لأنّه تعالى قال : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)) (١) ، فالأشبه بالظاهر أن يكون الكلام وعدا بالثواب ، وراجعا إلى الذين يقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)، أو يكون راجعا إلى الجميع ، فيكون المعنى : إنّ للجميع نصيبا ممّا كسبوا ، فلا يكون وعيدا خالصا ؛ بل إمّا أن يكون وعدا خالصا أو وعدا ووعيدا ، على أنّه لو كان وعيدا خالصا على ما ذكر الطاعن لكان لقوله تعالى : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)، على تأويل من أراد قصر الزمان ، وسرعة الموافقة وجه وتعلّق بالوعد والوعيد ؛ لأنّ الكلام على كلّ حال متضمّن لوقوع المحاسبة على أعمال العباد ، والإحاطة بخيرها وشرّها ؛ وإن وصف الحساب مع ذلك بالسرعة ؛
__________________
(١) سورة البقرة ، الآيات : ٢٠٠ ـ ٢٠٢.