فإن أكّدت هذه الأفعال بالمصدر فالإعمال ليس إلّا ، تقدّمت أو توسّطت أو تأخّرت ، نحو قولك : «ظننت ظنا زيدا قائما» ، و «زيدا ظننت ظنا قائما» ، و «زيدا قائما ظننت ظنا» ، وإنّما لم يجز الإلغاء مع التأكيد بالمصدر لما في ذلك من التناقض ، وذلك أنّك لو ألغيتها عن المفعولين مع إعمالك لها في المصدر ، لكنت معملا لها ملغيا لها في حين واحد. وأيضا فإنّك من حيث تلغي لم تبن الكلام عليها ولا كان معتمد الكلام على الإتيان بها ، بل تقدّر أنّه عرض لك ذكرها بعد بناء الكلام على أن لا تكون فيه ، ومن حيث تؤكّد بالمصدر تكون قد جعلتها معتمدا عليها في الكلام ، إذ لا يؤكد من الكلام إلا موضع الاعتماد والفائدة.
فإن أكّدّت بضمير المصدر أو بالإشارة إلى المصدر فالإعمال ، ولا يجوز الإلغاء إلّا قليلا جدّا ، إلّا مع التوسط والتأخّر. والإلغاء مع الإشارة إلى المصدر أقوى من الإلغاء مع ضمير المصدر ، وذلك نحو قولك : «زيدا ظننته قائما» ، أو «زيدا ظننت ذاك قائما» ، فالضمير عائد على المصدر الدالّ عليه «ظننت» ، وكذلك «ذاك» إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل ويشير إليه.
فمثال إعادة الضمير عليه قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) أي : العدل أقرب للتقوى.
ومثال الإشارة إليه قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٢) ، أي : إنّ صبره.
فإن قال قائل : فلأيّ شيء جاز الإلغاء معهما ولا يجوز مع المصدر؟ فالجواب : إنّهما لمّا كانا مبنيّين لم يظهر للعامل فيهما عمل جاز لك إلغاؤها ، إذ لا تكون كأنّك معمل ملغ في حال واحد ، بل تكون هذه الأفعال ملغاة بالنظر إلى المفعولين وكالملغاة بالنظر إلى الضمير واسم الإشارة من حيث لم يظهر لها عمل فيهما. فإن قال قائل : فلأيّ شيء كان الإلغاء مع الضمير أقبح منه مع اسم الإشارة؟ فالجواب : إنّ الضمير وإن كان مبنيّا فهو أقرب إلى المصدر المعرب من حيث كانت صيغة الضمير تنبىء عن النصب ، فصارت الصيغة بمنزلة الإعراب في المصدر ، ألا ترى أنّ كل واحد من الإعراب والصيغة ينبئان عن النصب. فشابه الضمير المصدر من هذه الجهة.
______________________
(١) المائدة : ٨.
(٢) الشورى : ٤٣.