الحجّة الحادية عشرة : التمسّك بقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسّر من القرآن واجبة.
فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب ، وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.
وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقصة ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز.
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسّر من القرآن ؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذ لا تكون متيسّرة للكلّ.
الحجّة الثّانية عشرة : الأصل بقاء التكليف ، فالقول بأنّ الصّلاة بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أن يعرف بالنّص (١) أو بالقياس (٢).
__________________
(١) أصل النص في اللغة : الرفع ، ومنه قول عمرو بن دينار : (ما رأيت رجلا أنصّ للحديث من الزهري) ، أي : أرفع له وأسند.
وفي الاصطلاح عند المتقدمين من الحنفية : كون المعنى مسوقا له اللفظ ، وظاهر فيه احتمل التخصيص والتأويل أو لا.
وعند المتأخرين : كون المعنى مسوقا له اللفظ مع احتمال التخصيص والتأويل.
وعند الشافعي ـ رحمهالله ـ : النص ما كان قطعيّ الدلالة.
أما حكمه عند الشافعية ، فالعمل به ، لكن لا على جهة القطع ؛ لوجود الاحتمال المرجوح ، فإن رجح بدليل يعضده ، كان مؤولا مصروفا عن الظاهر ، وإن تساوى الاحتمالان ، فالوقف حتى يظهر الدليل.
وأما عند الحنفية ففيه مذهبان :
«الأول» مذهب مشايخ العراق ؛ منهم : أبو الحسن الكرخي ، وأبو بكر الجصاص ، ومذهب القاضي أبي زيد ومن تابعه ، وعامة المعتزلة.
وهو أن الثابت بها ثابت قطعا يقينا ، واجب العمل به ، سواء أكان خاصّا ـ مع قيام احتمال التأويل فيه ـ أم عامّا ـ مع قيام احتمال التخصيص وذلك بناء منهم على أن لا عبرة للاحتمال البعيد ، وهو الذي لا ينشأ عن قرينة.
«المذهب الثاني» وهو مذهب ما وراء النهر ؛ منهم : الإمام أبو منصور الماتريدي ، وبه قال بعض علماء الحديث ، وبعض أصحاب المعتزلة ـ أن حكم النص : وجوب العمل بما وضع له اللفظ لا قطعا ، ووجوب اعتقاد حقّية ما أراد الله ـ تعالى ـ من ذلك الحكم ، وهذا منهم بناء على أن العام ـ وإن خلا عن قرينة التخصيص ـ والخاص ـ وإن خلا عن قرينة التأويل ـ ولكن الاحتمال باق في الجملة ، وذلك ينزله عن درجة القطع ، وإن وجب العمل ، وحاصله : أن ما دخل تحت الاحتمال وإن كان بعيدا لا يوجب العلم ، بل يوجب العمل ؛ كخبر الواحد والقياس. ـ