ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزا. ولو قلت : المراد لا ريب في كونه معجزا على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣].
فإن قيل : لم تأت ، قال ها هنا : (لا رَيْبَ فِيهِ) وفي موضع آخر : (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] قلنا : لأنهم يقدمون الأهمّ ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب.
ولو قلت : «لا فيه ريب» لأوهم أن هناك كتابا آخر حصل فيه الريب لا هاهنا ، كما قصد في قوله تعالى (لا فِيها غَوْلٌ) تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا ، بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمر الدنيا. فإن قيل : من أين يدلّ قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) على نفي الريب بالكلية؟ قلنا : القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية ، والدّليل عليه أن قوله : (لا رَيْبَ) نفي لماهيّة الريب ؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية ؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية ، وذلك مناقض نفي الماهية ، ولهذا السّر كان قولنا : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) نفيا لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
وقرأ (١) أبو الشعثاء (٢) : «لا ريب فيه» بالرفع ، وهو نقيض لقولنا : (رَيْبَ فِيهِ) ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ، فيتحقق التناقض.
والوقف على «فيه» هو المشهور.
وعن نافع وعاصم (٣) أنهما وقفا على «ريب» ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبرا ، ونظيره قوله : (لا ضَيْرَ) [الشعراء : ٥٠] وقول العرب : «لا بأس».
واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا : إن عني أنه لا شكّ فيه عندنا ، فنحن قد نشك فيه ، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه.
الجواب : [المراد](٤) أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب
__________________
(١) قرأ بها أبو الشعثاء وزيد بن علي. انظر البحر المحيط : ١ / ١٦٠.
(٢) جابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء الجوني بفتح الجيم البصري الفقيه أحد الأئمة عن ابن عباس فأكثر ، ومعاوية وابن عمر ، وعنه قتادة وعمرو بن دينار وأيوب وخلف ، قال ابن عباس هو من العلماء قال أحمد مات سنة ثلاث وتسعين ، وقال ابن سعد : سنة ثلاث ومائتين.
ينظر الخلاصة : ١ / ١٥٦ (٩٦٨) ، تهذيب الكمال : ١ / ١٧٨ ، تهذيب التهذيب : ٢ / ٣٨ ، تقريب التهذيب : ١ / ١١٢ ، الثقات : ٤ / ١٠١.
(٣) عاصم بن بهدلة بن أبي النّجود بفتح النون وضم الجيم ، وقد غلط من ضم النون أبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي الحناط بالمهملة والنون شيخ الإقراء بالكوفة وأحد القراء السبعة. انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة. كان أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان فصيحا. توفي سنة ١٢٧ ه ، وقيل : غير ذلك ودفن بالشام. ينظر الغاية : ١ / ٣٤٦.
(٤) سقط في أ.