فنحن أولى وأحوج بل وأشد حاجة إلى تفسير القرآن الكريم ، إذ صار البون بعيدا بين العرب والفصحى ..
يقول السيوطي (١) :
«ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه ، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر ، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد احتياجا إلى التفسير».
والحاجة إلى التفسير إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين :
السبب الأول : هو أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف زمني متسع جدا : قدره أكثر من عشرين عاما ، فكان ينزل منجما على أجزاء مع فواصل زمنية متراخية بين تلك الأجزاء ، وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الآخر ، على ترتيب يختلف عن ترتيبه التعبدي ، لأن ترتيب تاريخ النزول كان منظورا فيه إلى مناسبة الظروف والوقائع ، مناسبة ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال. وترتيب التلاوة أو الترتيب التعبدي ، كان منظورا فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام بعضها مع بعض ، ... والترتيب الأول مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة والأمكنة.
أما ترتيب التلاوة التعبدي فباق لأنه في ذات الكلام ، يدركه كل واقف عليه وتال له من الأجيال المتعاقبة ، بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن ... وكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجا إلى معرفتها معرفة نقلية تصورية ، ليتمكن الآتون من استعمال القرائن والأحوال ، التي اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.
وأما السبب الثاني : فهو أن دلالات القرآن الأصلية ، التي هي واضحة بوضوح ما يقتضيه من الألفاظ والتراكيب ـ تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محل إجمال أو محل إبهام ، إذ يكون الترتيب صالحا على الترديد لمعان متباينة ، يتصور فيها معناه الأصلي ولا يتبين المراد منها ، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها ، أو يكنى عن حقيقة بإحدى خواصها ، أو أحد لوازمها .. فينشأ عن ذلك إجمال يتطلب بيانا ، أو إبهام يتطلب تعيينا .. ولما كان الذين اتصلوا أولا بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد رجعوا إلى المبلغ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها فتلقوا عندما أفادهم ، فاطلعوا بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لتتضح لهم تلك المعاني كما اتضحت لمن قبلهم ...» (٢).
__________________
(١) الإتقان ٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.
(٢) التفسير ورجاله ١٠ ـ ١٣.