فإن قلنا : هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير ، والمفعول الثاني : (فِي ظُلُماتٍ) ، و (لا يُبْصِرُونَ) حال ، وهي حال مؤكدة ؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يبصر.
وصاحب الحال : إما الضمير المنصوب ، أو المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور.
ولا يجوز أن يكون (فِي ظُلُماتٍ) حالا ، و (لا يُبْصِرُونَ) هو المفعول الثاني ؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل ، والخبر لا يؤتى به للتأكيد ، فإذا جعلت (فِي ظُلُماتٍ) حالا فهم منه عدم الإبصار ، فلو يفد قولك بعد ذلك : (لا يُبْصِرُونَ) إلا التّأكيد ، لكن التأكيد ليس من شأن الأخبار ، بل من شأن الأحوال ؛ لأنها فضلات.
ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرىء القيس : [الطويل]
٢٣٦ ـ إذا ما بكى من خلفها انصرفت له |
|
بشقّ وشقّ عندنا لم يحوّل (١) |
أعربوا : «شقّ» مبتدأ و «عندنا» خبره ، و «لم يحوّل» جملة حالية مؤكدة ؛ قالوا : وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنه موضع تفصيل ، وأبوا أن يجعلوا «لم يحوّل» خبرا ، و «عندنا» صفة ل «شق» مسوّغا للابتداء به قالوا : لأنه فهم معناه من قوله : «عندنا» ؛ لأنه إذا كان عنده علم منه أنه لم يحوّل.
وقد أعربه أبو البقاء كذلك ، وهو مردود بما ذكرت.
ويجوز إذا جعلنا «لا يبصرون» هو المفعول الثّاني أن يتعلّق «في ظلمات» به ، أو ب «تركهم» ، التقدير : «وتركهم لا يبصرون في ظلمات». وإن كان «ترك» متعديا لواحد كان «في ظلمات» متعلّقا ب «تركهم» ، و «لا يبصرون» حال مؤكّدة ، ويجوز أن يكون «في ظلمات» حالا من الضّمير المنصوب في «تركهم» ، فيتعلّق بمحذوف ، و «لا يبصرون»
__________________
ـ «اختار» فعل يتعدى إلى مفعول واحد بغير حرف الجر ، وإلى الثاني به ، والمقدّم في الرتبة وهو المنصوب بغير حرف جر ، فإن قدمت المجرور ، فلضرب من العناية للبيان ، والنية به التأخير ، والبيت الذي معنا الشاهد فيه قوله : «أمرتك الخير» وقوله : «أمرت به» فإن العبارة الأولى قد تعدى فيها الفعل الذي هو : «أمر» ، إلى مفعولين بنفسه ، وفي العبارة الثانية : قد تعدى إلى الأول منهما بنفسه ؛ وهو النائب عن الفاعل ، وإلى الثاني بحرف الجر ، والذي في كلام «سيبويه» والأعلم يدل على أنهما يعتبران الأصل في هذا الفعل ، أنه يتعدى إلى ثاني مفعوليه بحرف الجر ، ثم قد يحذف حرف الجر فيصل الفعل إلى المفعول الثاني بنفسه ، فيدل ذلك على أن النصب عندهما على نزع الخافض ، وأنه يقتصر فيه على المسموع ، قال الأعلم : «أراد الشاعر : أمرتك بالخير ؛ فحذف ووصل الفعل ، ونصب ، وسوّغ الحذف والنصب أن الخبر اسم فعل يحسن «أن» وما عملت فيه في موضعه ، وأن يحذف معها حرف الجر كثيرا ؛ تقول : أمرتك أن تفعل ، تريد : بأن تفعل ... فإن قلت : أمرتك بزيد ، لم يجز أن تقول : أمرتك زيدا ؛ لما بينت لك» ويريد بقوله «اسم فعل» : أنه اسم معنى دالّ على الحدث. ينظر المصادر السابقة لتخريج البيت.
(١) ينظر ديوانه : ١٢ ، رصف المباني : ٣١٦ ، شرح القصائد العشر : (٧٤) ، والشنقيطي : (٦٠) ، والبحر : (١ / ٢١٥) والدر المصون : (١ / ١٣٣).