وسادسها : أن القرآن أصل للعلوم كلها ، فعلم الكلام كلّه في القرآن ، وعلم الفقه مأخوذ من القرآن ، وكذا علم أصول الفقه ، وعلم النحو ، واللغة ، وعلم الزهد في الدّنيا ، وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق.
وأما الطريق الثاني : أن يقول : القرآن لا يخلو إما أن يكون بالغا في الفصاحة إلى حدّ الإعجاز ، أو لم يكن ، فإن كان الأول ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني كانت المعارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمعارضة ، مع توفّر داعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزا ، فثبت أنّ القرآن معجز على جميع الوجوه.
«إن» حرف شرط يجزم فعلين : شرطا وجزاء ، فلا تقول : «إن غربت الشمس».
فإن قيل : فكيف قال هاهنا : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) ، وهذا خطاب مع الكفار ، والله تعالى يعلم أنهم في ريب ، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب ، ومع ذلك فالتعليق حسن.
فالجواب : الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية ، بل الأوضاع العربية مبنيّة على خصائص الخلق ، والله ـ تعالى ـ أنزل القرآن بلغة العرب ، وعلى منوالهم ، فكل ما كان في لغة العرب حسنا نزل القرآن على ذلك الوجه ، وما كان نسخا في لسان العرب لم ينزل في القرآن ، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكا فيه بين الناس ، حسن تعليقه ، سواء كان من قبل الله ـ تعالى ـ أو من قبل غيره ، وسواء كان معلوما للسّامع أو المتكلّم أم لا ، وكذلك حسن قولك : إن كان زيد في الدار فأكرمه ، مع أنك تعلم أن زيدا في الدار ؛ لأن حصول زيد في الدار ، شأنه أن يكون في العادة مشكوكا فيه ، ولا يكون إلّا في المحتمل وقوعه ، وهي أم الباب ؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيرا ، وقد يحذف الشّرط والجزاء معا ؛ قال : [الرجز]
٢٨٧ ـ قالت بنات العمّ : يا سلمى وإن |
|
كان فقيرا معدما قالت : وإن (١) |
أي : وإن كان فقيرا تزوجته.
وتكون «إن» نافية فتعمل وتهمل ، وتكون مخففة وزائدة باطّراد وعدمه ، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى «إذا» ، وبعضهم أن تكون بمعنى «قد» ، ولها أحكام كثيرة.
و «في ريب» خبر كان ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحل «كان» الجزم ، وهي وإن كانت ماضية لفظا فهي مستقبلة معنى.
وزعم المبرد أنّ ل «كان» الناقصة حكما مع «إن» ، ليس لغيرها من الأفعال
__________________
(١) البيت لرؤبة. ينظر ملحقات ديوانه : (١٨٦) ، المقرب : (١ / ٢٧٧) ، شرح شواهد المغني : (٩٣٦) ، المغني : (٢ / ٦٤٩) ، رصف المباني : (١٠٦) ، ضرائر الشعر : (١٨٥) ، التصريح : (١٩٥٨) ، الدر المصون : (١ / ١٥١).