وفي قوله : (نَزَّلْنا) التفات من الغيبة إلى التكلّم ؛ لأن قبله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) فلو جاء الكلام عليه لقيل : «مما نزّل على عبده» ولكن التفت للتفخيم.
و «على عبدنا» متعلّق ب «نزّلنا» وعدّي ب «على» لإفادتها الاستعلاء ، كأن المنزل تمكّن من المنزول (١) عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون «إلى» فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط ، والإضافة في «عبدنا» تفيد التشريف ؛ كقوله : [السريع]
٢٨٨ ـ يا قوم قلبي عند زهراء |
|
يعرفه السّامع والرّائي |
لا تدعني إلّا بيا عبدها |
|
فإنّه أشرف أسمائي (٢) |
وقرىء (٣) «عبادنا» فقيل : المراد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأمته ؛ لأن جدوى (٤) المنزل حاصل لهم.
وقيل : المراد بهم جميع الأنبياء عليهمالسلام.
والعبد : مأخوذ من التعبد ، وهو التذلل ؛ قال طرفة : [الطويل]
٢٨٩ ـ إلى أن تحامتني العشيرة كلّها |
|
وأفردت إفراد البعير المعبّد (٥) |
أي : المذلّل.
ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمّى نبيه عبدا.
قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) جواب الشرط ، والفاء هنا واجبة ؛ لأن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطا بنفسه ، وأصل «فأتوا» «إأتيوا» مثل : اضربوا ، فالهمزة الأولى همزة وصل أتي بها للابتداء بالسّاكن ، والثّانية فاء الكلمة ، فلما اجتمع همزتان ، وجب قلب ثانيهما ياء على حدّ «إيمان» وبابه ، واستثقلت «الضمة» على «الياء» التي هي «لام» الكلمة فقدرت ، فسكنت «الياء» ، وبعدها «واو» الضمير ساكنة ، فحذفت «الياء» لالتقاء ساكنين ، وضمّت «التاء» للتجانس ، فوزن «ايتوا» : «افعوا» ، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداء ، أما في الدّرج فإنه يستغنى عنها ، وتعود الهمزة التي هي «فاء» الكلمة ؛ لأنّها إنّما قلبت ياء للكسر الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : «فأتوا» وبابه ، وقد تحذف الهمزة التي هي «فاء» الكلمة في الأمر كقوله : [الطويل]
٢٩٠ ـ فإن نحن لم ننهض لكم فنبرّكم |
|
فتونا فعادونا إذا بالجرائم (٦) |
__________________
(١) في أ : المنزّل.
(٢) ينظر البحر : (١ / ٢٤٥) ، القرطبي : (١ / ١٦١) ، وروح المعاني : (١ / ١٩٣) ، والدر المصون : (١ / ١٥٢).
(٣) انظر الكشاف : ١ / ٩٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٤٥ ، والدر المصون : ١ / ١٥٤.
(٤) في أ : حدوث.
(٥) ينظر ديوانه : (٣١).
(٦) ينظر البيت في البحر : ١ / ٢٤٢ ، ضرائر الشعر : ص (١٠٠) ، والدر المصون : (١ / ١٥٢).