الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة ، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأئمة إلّا ما روي عن
__________________
ـ لهذا الدين ممّن يقوم به» فبادر الكلّ إلى قبول قوله ، ولم يقل أحد : لا حاجة لنا بذلك ، بل اتفقوا عليه ، وأخذوا ينظرون فيمن يتولّى أمرهم ، وتركوا له أهم الأشياء ، وهو دفن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ، واختلاف الصحابة في تعيين الخليفة لا يقدح في ذلك الاتّفاق ، ولم يزل الناس بعدهم على ذلك في كل عصر وزمن.
الثاني : أن الشارع أمر بإقامة الحدود ، وسد الثغور ، وتجهيز الجيوش للجهاد ، وكثير من الأمور المتعلّقة بحفظ النّظام ، وحماية البيضة ممّا لا يتم إلا بخليفة ؛ إذ لا يمكن لآحاد الناس أن يقوم به ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به ، وكان مقدورا عليه ـ فهو واجب.
الثالث : أن في نصب الخليفة جلب منافع كثيرة ، ودفع مضارّ عديدة ، وكل ما كان كذلك فهو واجب بالإجماع ؛ وذلك لأنّا نعلم علما ضروريا أن اجتماع الناس الموصّل إلى صلاحهم في دينهم ودنياهم ، لا يتم إلا بسلطان قاهر يدرأ المفاسد ، ويحفظ المصالح ، ويمنع ما تتسارع إليه طباعهم ، وتتنازع عليه أطماعهم.
ولهذا لا ينتظم أمر أذنى اجتماع ؛ كرفقة طريق بدون رئيس يقتدون برأيه ، وربما يحصل مثل هذا بين الحيوانات كالنّحل ؛ إذ لها عظيم يقوم مقام الرئيس ، ينتظم به أمرها ، فإذا هلك ، شاع بينها الانقسام والفساد.
ونوقش هذا الدليل بأن في نصب الخليفة مضارّ كثيرة ، وقد قال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لا ضرر ولا ضرار».
فإن تولية الإنسان على مثله ليحكم عليه فيما يهتدي إليه ، وفيما لا يهتدي إليه ضرر لا محالة.
وقد يستنكف عنه بعض الناس ؛ كما وقع فيما مضى ، فيفضي ذلك إلى الاختلاف والفتنة ، وهذا ضرر عظيم.
ويزاد على ذلك : أن الخليفة لا تجب عصمته ، فيتصوّر منه الكفر والفسوق ، وإن لم يعزل ، أضرّ بالأمة ، وإن عزل ، أدّى ذلك إلى الفتنة ؛ لاحتياج الناس إلى محاربته.
وأجيب عن ذلك : بأن المضارّ اللازمة من ترك نصب الخليفة أكثر بكثير من المضار الناشئة من نصبه ، ودفع الضرر الأعظم عند التّعارض واجب.
قال العلامة «السعد» في «شرح المقاصد» بعد أن ذكر الأدلّة الثلاثة : وقد يتمسك بمثل قوله ـ تعالى ـ : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وقوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول.
واستدل القائلون بوجوب نصب الخليفة عقلا : بأن طباع العقلاء توجب التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم ، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم ، وأنّ كل أمة لا تستغني عن قوّة تحمي قوانينها ، وتدير شئون أفرادها ، وعليه فوجود الحاكم الوازع ضرورة من ضرورات الاجتماع البشري الذي تختلف فيه الأهواء ، وتتشتت الآراء ، فيكثر النزاع ، ويشتد الخصام ، وتسود الفوضى ؛ لذلك يقول الأفوه ـ وهو شاعر جاهلي ـ : (البسيط)
لا يصلح النّاس فوضى لا سراة لهم |
|
ولا سراة إذا جهّالهم سادوا |
وردّ هذا الدليل : بأنه مبني على قاعدة (ما أدركه العقل حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما أدركه قبيحا فهو عند الله قبيح).
وهي قاعدة باطلة ، إذ لو كان العقل كافيا في درك الأحكام الشرعية ، وانتظام أمر الناس في دينهم ودنياهم ، لما كان هناك حاجة لإرسال الرسل ـ عليهمالسلام ـ إلى الخلق.
وهذا هو الصواب الذي تركن إليه النّفس ، ويطمئن إليه القلب ، ويخضع له الفكر السليم ؛ لأن العقول متباينة ومتفاوتة ، فربّ أمر يكون حسنا في نظر بعض العقول ، هو قبيح في نظر بعض آخر ، فكيف يدرك العقل الأحكام الشرعية؟ وكيف يكون متعلّق المدح والثواب والذم والعقاب؟ لا بدّ إذا في انتظام أمر المجتمع من قانون سماويّ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ـ