فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ، ولهذا قال الله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى البشر ، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حوّاء ، وحواء ما عرفت التكليف إلا بواسطة آدم لقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [البقرة : ٣٥] شافههما بهذا التكليف ، وما جعل آدم واسطة ، ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى الجن ؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجنّ ، ولا جائز أيضا أن يكون مبعوثا إلى أحد ، لأن المقصود من جعله رسولا التبليغ ، فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولا فائدة.
وثالثها : قوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) [طه : ١٢٢] دليل على أنه إنما اجتباه ربه بعد الزّلة ، فوجب أن يكون قبل الزّلة غير مجتبى ، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب ألا يكون رسولا ؛ لأن الاجتباء والرسالة متلازمان ، لأن الاجتباء لا معنى له إلّا التخصيص بأنواع التشريفات ، وكل من جعله الله رسولا ، فقد خصّه بذلك لقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].
قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ).
«ثم» : حرف للتّراخي كما تقدّم ، والضّمير في «عرضهم» للمسميات المقدّرة ، أو لإطلاق الأسماء وإرادة المسميات ، كما تقدم.
وقيل : يعود على الأسماء. ونقل عن ابن عباس ، ويؤيده قراءة أبيّ (١) «عرضها» ، وقراءة (٢) ابن مسعود (٣) : «عرضهنّ» إلا أن في هذا القول جعل ضمير غير العقلاء كضمير العقلاء أو نقول : إنما قال ابن عباس ذلك بناء منه أنه أطلق الأسماء ، وأراد المسميات كما تقدم وهو واضح.
و «على الملائكة» متعلّق ب «عرضهم».
قال ابن مسعود وغيره : عرض الأشخاص ، لقوله تعالى : (عَرَضَهُمْ) وقوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ).
وفي الحديث : «إنّه عرضهم أمثال الذّرّ» (٤).
__________________
(١) انظر الشواذ : ١٤ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٢٠ ، والبحر المحيط : ١ / ٢٩٦ ، والدر المصون : ١ / ١٨٢ ، والقرطبي : ١ / ١٩٥.
(٢) في ب : ومن حرف.
(٣) ينظر تخريج القراءة السابقة.
(٤) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٧٩ عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر ، في صور الناس ، يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجنا في جهنم ، يقال له : بولس فتعلوهم نار الأنيار ، ويسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار».