وممّا يبطل ما اعتمدوه في باب الاستثناء أنّ القائل إذا قال لغيره : ألق جماعة من العلماء ، واقتل فرقة من الكفّار ، حسن أن يستثنى ، كلّ واحد من العلماء والكفّار ، فيقول : إلّا فلانا ، وإلّا الفرقة الفلانيّة ، ولا أحد منهم إلّا ويحسن أن يستثنى ، فلو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ ، لوجب ان يكون قولنا «فرقة» و «جماعة» مستغرقا لجميع الكفّار والعلماء ، كما قالوا في لفظة «من» ، وليس هذا قولهم ، ولا قول أحد.
وبعد ، فإنّ أبا هاشم ومن ذهب مذهبه في أنّ ألفاظ الجنس والجموع لا تستغرق ، لا يستمرّ له دليل الاستثناء ؛ لأنّ حسن استثناء كلّ عاقل من قولنا : جاءني الناس ، واستثناء كلّ مشرك من قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (١) ، ظاهر ، وإن لم تكن هذه الألفاظ عنده مستغرقة كلفظة «من» و «ما» ، فما المانع من أن يكون الاستثناء من لفظة «من» و «ما» بهذه المنزلة.
والجواب عمّا ذكروه ثالثا : أنّ هذا منهم إثبات لغة بقياس واستدلال ، وذلك ممّا لا يجوز فيما طريقه اللغة.
وبعد ، فليس يخلو قولهم : لا بدّ أن يضعوا عبارة ، من أن يريدوا أنّه واجب عليهم أن يفعلوا ذلك ، أو لا بدّ أن يقع على سبيل القطع : فإن كان الأوّل ، فمن أين لهم أنّهم لا بدّ أن يفعلوا الواجب ، ولا يخلّوا به ، وليس في وجوب الشيء دلالة على وقوعه ، إلّا أن يتقدم العلم بأنّ من وجب عليه لا يترك الواجب ، وهذا ممّا لا يدّعى على أهل اللغة. وإن أرادوا القسم الثاني ، فيجب أن يكون القوم ملجئين إلى وضع العبارات ، وهذا بعيد ممّن بلغ إليه ، لأنّه لا وجه يلجىء القوم إلى ذلك ، لا سيّما وهو متمكّنون من إفهام ما عقلوه من المعاني ـ إذا قويت دواعيهم إلى إفهامها ـ بالإشارة على اختلاف أشكالها.
وقد كان يجب أيضا أن يقطع على ثبوت لفظ الاستغراق في كلّ لغة ، للعلّة الّتي ذكروها.
__________________
(١) سورة التوبة ، الآية : ٥.