ثم قال : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ)، والمعنى أنّهما لا يعلّمان أحدا ، بل ينهيان عنه ، ويبلغ من نهيهما وصدّهما عن فعله واستعماله أن يقولا : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) باستعمال السحر والإقدام على فعله ، وهذا كما يقول الرجل : ما أمرت فلانا بكذا ، ولقد بالغت في نهيه حتى قلت له : إنّك إن فعلته أصابك كذا وكذا ؛ وهذا هو نهاية البلاغة في الكلام ؛ والاختصار الدالّ مع اللفظ القليل على المعاني الكثيرة ؛ لأنّه استغنى بقوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) عن بسط الكلام الذي ذكرناه ؛ ولذلك نظائر في القرآن ، قال الله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) ، فلولا الاختصار لكان مع شرح الكلام يقول : ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، ولو كان معه إله إذا لذهب كلّ إله بما خلق ؛ ومثله قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٢) ، أي : فيقال للّذين اسودّت وجوههم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا) وأمثاله أكثر من أن تورد.
ثم قال تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)، وليس يجوز أن يرجع الضمير في هذا الجواب إلى الملكين ؛ وكيف يرجع إليهما وقد نفى عنها التعليم! بل يرجع إلى الكفر والسحر ، وقد تقدّم ذكر السحر ، وتقدّم أيضا ذكر ما يدلّ على الكفر ويقتضيه في قوله : (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)؛ فدلّ «كفروا» على الكفر ، والعطف عليه مع السحر جائز ، وإن كان التصريح قد وقع بذكر السحر دونه ؛ ومثل ذلك قوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) (٣) ، أي يتجنّب الذكرى الأشقى ، ولم يتقدّم تصريح بالذّكرى ، لكن دلّ عليها قوله : (سَيَذَّكَّرُ).
ويجوز أيضا أن يكون المعنى (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما)، أي بدلا ممّا علّمهم
__________________
(١) سورة المؤمنون ، الآية : ٩١.
(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٠٦.
(٣) سورة الأعلى ، الآيتان : ١٠ ـ ١١.