بذلك على وجوب عبادته ، وإن العبادة إنّما تجب لأجل النعم المخصوصة ، فقال جل من قائل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) (١) إلى آخر الآية ، ونبه في آخرها على وجوب توحيده ، والإخلاص له وألّا يشرك به شيء ، بقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢).
فالسياق ـ هنا ـ هو الّذي حدد المعنى ، وخرج بهذه اللفظة «تعلمون» عن معنى العلم المطلق إلى العلم بأمور وأشياء مخصوصة ، فالدلالة المعجمية ـ هنا ـ ليست فيصلا في تحديد المعنى المراد ، لأنّها لن تحدد لنا تحديدا واضحا المعنى الصحيح. ولا شكّ في أنّ المعنى ـ أحيانا ـ لا يمكن الوصول إليه إلّا بعد تفكير وتأمّل دقيقين ، فقد وردت في القرآن الكريم ألفاظ تطلب السياق توجيه معناها بخلاف الظاهر السابق إلى الفهم ، لأنّ القرآن يحمل بين ألفاظه وجوها دلالية كثيرة يظهرها التأويل والاستنباط (٣).
ويقف المرتضى عند قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (٤). وفي كشفه عن دلالة المفردات في هذه الآيات يلاحظ المرتضى الترابط القائم بين الألفاظ وأثر ذلك في توجيه المعنى ، فيقول : فأمّا «مقربة» فمعناه يتيما ذا قربى ؛ من قرابة النسب والرّحم ، وهذا حضّ على تقديم ذي النسب ، والقربى المحتاجين على الأجانب في الإفضال.
والمسكين : الفقير الشديد الفقر والمتربة : مفعلة ، من التراب ، أي هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته ... وقد يمكن في «مقربة» أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى ؛ بل هو من القرب ، الّذي هو من الخاصرة ، فكأن المعنى أنه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدّة الجوع والضر ؛ وهذا أعمّ في المعنى
__________________
(١) سورة البقرة ، الآيتان : ٢١ ـ ٢٢.
(٢) أمالي المرتضى ، ٢ : ١٨٧.
(٣) ينظر ظاهرة التأويل وصلتها باللغة : ٨٤ وما بعدها.
(٤) سورة البلد ، الآيات : ١١ ـ ١٦.