ظهور الهلال بدا من خلل السحاب ، وكأنّه قال أيضا : شممت الريحان من داري كائنا من الطريق. فـ «من» الثانية لابتداء غاية الكون. وهذا الذي ذهب إليه باطل عندي ، لأنّه قد تقدّم في باب المبتدأ والخبر أنّ المحذوف الذي يقوم المجرور مقامه إنّما يكون مما يناسب معناه الحرف ، و «من» الابتدائية لا يفهم منها الكون ولا الظهور ، فلا ينبغي أن يجوز حذفهما منه.
والذي زعم أنّ «من» لتبيين الجنس استدلّ على ذلك بقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١). ألا ترى أنّ الأوثان كلّها رجس. وإنّما أتيت بـ «من» ليبين ما بعدها الجنس الذي قبلها ، فكأنّك قلت : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، أي : اجتنبوا الرجس الوثنيّ.
واستدلّ أيضا بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (٢). لأنّ المعنى عنده : وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم. لأن الخطاب إنّما هو للمؤمنين ، فلذلك لم يتصوّر أن تكون «من» تبعيضية. وكقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٣). أي : من جبال هي برد لأنّ الجبال هي البرد لا بعضها.
ولا حجة لهم في شيء من ذلك. أما قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (٤). فهو يتخرّج على أن يكون المراد بالرجس عبادة الوثن ، فكأنّه قال : فاجتنبوا من الأوثان الرجس الذي هو العبادة ، لأنّ المحرّم من الأوثان إنّما هو عبادتها.
إلا أنّه قد يتصوّر أن يستعمل الوثن في بناء ، أو غير ذلك مما لم يحرمه الشارع ، وتكون «من» غاية مثلها في قوله : «أخذته من التابوت» (٥). ألا ترى أن اجتناب عبادة الأوثان ابتداؤه وانتهاؤه في الوثن ، وكذلك قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) (٦) ، قد تكون «من» مبعّضة ويقدّر الخطاب عامّا للمؤمنين وغيرهم ، وكذلك قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) (٧). قد يتصوّر أن تكون «من» فيه مبعّضة ، ويكون المعنى مثله إذا جعلت «من» لتبيين الجنس ، وذلك بأن يكون قوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ) بدلا من «السماء». لأنّ السماء مشتملة على الجبال التي فيها كأنّه قال : وينزّل من جبال في السماء. ويكون «من برد» بدلا من «الجبال» بدل شيء من شيء ، كأنّه قال : وينزّل من برد في
______________________
(١) الحج : ٣٠.
(٢) النور : ٥٥.
(٣) النور : ٤٣.
(٤) الحج : ٣٠.
(٥) لم أقع على مصدر هذا القول.
(٦) النور : ٥٥.
(٧) النور : ٤٣.