«عليكم بكتاب الله ـ فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر من بعدكم ، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبّار قصمه الله تعالى. ومن اتّبع الهدى في غيره أضلّه الله ـ تعالى ـ هو حبل الله المتين ، والذكر الحكيم ، والصّراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع به العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الرّد ولا تنقضي عجائبه ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن خاصم به فلج ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (١).
ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم إلّا به لكانت المخاطبة به نحو مخاطبة العرب باللّغة الزنجية ، ولما لم يجز ذلك فكذا هذا.
وأيضا المقصود من الكلام الإفهام ، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا وسفها ، وهو لا يليق بالحكيم.
وأيضا أنّ التّحدّي وقع بالقرآن ، وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التّحدّي به.
واحتجّ مخالفوهم بالآية ، والخبر ، والمعقول.
أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن ، وأنه غير معلوم ؛ لقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] والوقف هاهنا ، لوجوه :
أحدها : أن قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لو كان معطوفا على قوله تعالى (إِلَّا اللهُ) لبقي قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) منقطعا عنه ، وإنه غير جائز ؛ لأنه لا يقال : إنّه حال ، لأنا نقول : فحينئذ يرجع إلى كلّ ما تقدم ، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وهذا كفر.
وثانيها : أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه ، فإنّهم لما عرفوه بالدّلالة لم يكن الإيمان به إلّا كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح.
وثالثها : أن تأويلها (٢) كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذمّا ، لكن قد جعله ذمّا حيث قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران : ٧] وأما الخبر فروي أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ قال : «إنّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلّا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرّة بالله» (٣).
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند (١ / ٩١) بلفظ مقارب عن علي بن أبي طالب والدارمي في السنن (٢ / ٤٣٥) كتاب فضائل القرآن باب فضل من قرأ القرآن.
(٢) في أ : تأويله.
(٣) ذكره المنذري في الترغيب والترهيب ١ / ١٠٣ وابن كثير في التفسير ٦ / ٣٥٧ ـ والسيوطي في اللآلىء المصنوعة ١ / ١١٥ والزبيدي في الإتحاف ١ / ١٦٦ ، ٢ / ٦٦.
والهندي في كنز العمال حديث رقم ٨٩٤٢ ، وعزاه للديلمي عن أبي هريرة.